كتبت فى الأسبوعين الماضيين عن كيف يلتقى تخبّط الداخل مع مؤامرات الخارج فى قرض الصندوق والدعوة المشبوهة لطبخ الدستور تحت شعار تطبيق الشريعة، وكيف أن كلًّا منهما يسهم فى التمويه على عملية تمرير الآخر، كى يستمر النهب والخراب. ولم أكن أتوقّع أبدًا، لأننى افترضت أن دهاقنة الإخوان أكثر ذكاء ودهاء مما هم عليه حقيقة، وأنهم يعرفون الفرق بين ألاعيب المعارضة السياسية وإدارة الدولة بعد الوصول للحكم، أن يلجأ محمد مرسى إلى ما دعاه بالإعلان الدستورى كى يمرر إخوانه هذه الطبخة المسمومة التى كانت تعد فى أروقة تنظيمهم السرية للشعب المصرى ولثورته النبيلة. فبعد خمسة أشهر على قمة السلطة، لم تتمخض أكذوبة ما سمى بمشروع النهضة إلا عن تلك القرارات الديكتاتورية التى تعصف بالسلطة القضائية، وتحيل الرئيس إلى فرعون، وتموّه على هاتين الجريمتين بما دعته تحقيق أهداف الثورة والقصاص لشهدائها. فلماذا لم تتخذ فى خمسة أشهر خطوة واحدة من أجل هذا القصاص المزعوم؟ وإن كنت بحق حريصًا على القصاص للشهداء، فلماذا تهدر دم المزيد منهم الآن فى «محمد محمود» وغيرها من المواقع؟ ولا أظن أننى وأنا أكتب عن بعد عما يدور فى المشهد المصرى أستطيع أن أضيف الكثير إلى ما قاله الكثيرون عن أن هذا الإعلان الدستورى والعدم سواء. أو عن أنه يشكل انقلابًا على الدستور لم تعرف له مصر من قبل مثيلًا، وممن أقسم أمام المحكمة الدستورية التى ينقلب عليها بإعلانه، على احترامه عند تنصيبه رئيسًا لمصر لا للجماعة، لأن للجماعة مرشدها. أو عن تناقض هذا الإعلان مع كل أهداف الثورة رغم تذرّعه المكذوب بأنه ينطلق من الرغبة فى تحقيقها والدفاع عن أهدافها. أو عن دور هذا الإعلان غير الدستورى فى شق الصف المصرى، وإطلاق شرارات العنف والفوضى فى كثير من مدن مصر ومحافظاتها. ناهيك بالبديهية الأساسية فى أن الطريق إلى تحقيق أهداف ثورة نبيلة مثل الثورة المصرية فى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لا يبدأ أبدًا بالديكتاتورية، لأن الديكتاتورية لم تكن يومًا الطريق إلى الحرية، بل إلى القمع والقهر والاستبداد. فقد كتب الكثيرون عن هذا كله، وعاد شباب الثورة إلى ميادين التحرير بالملايين للدفاع عن ثورتهم، فى مشهد أعاد إلى الأذهان زخم ثورة يناير النبيلة وعنفوانها. ولكن ما يمكننى أن أضيفه هنا، بعد أن أمضيت أكثر من ثلاثين عامًا من الحياة فى الغرب الديمقراطى أحلم بأن تبنى مصر ديمقراطيتها، ويتخلق فيها نظام يمكّن شعبها من حكم نفسه، والتحرر من أمراس الهوان والتخلف والتبعية، هو أننى على كثرة ما شاهدت من مظاهرات فى البلاد التى تسود فيها نظم ديمقراطية حقيقية، ويتم فيها تداول السلطة بشكل سلس وحر، لم أشهد أبدًا مظاهرة واحدة يتم فيها حشد المتظاهرين وإحضارهم بالأوتوبيسات العملاقة من أجل تأييد قرار اتخذته حكومة ما أو رئيس ما، لأن المظاهرات فى البلاد الديمقراطية، التى تحترم ديمقراطيتها، هى أداة من أدوات المعارضة وليست وسيلة من وسائل السلطة فى الحكم، فلدى السلطة جهاز الدولة الجبار الذى تحقق به أهدافها، بينما لا تملك المعارضة إلا حق الاعتراض والتظاهر، لذلك فإن المظاهرات فى البلاد الحرة تنظمها دائمًا المعارضة للاحتجاج على ما تقوم به الحكومة من إجراءات، أو ما تتخذه من قرارات. وقد شاركت على مدى سنوات طويلة فى كثير من تلك المظاهرات فى لندن أو باريس، وكانت أكبرها تلك المظاهرة الحاشدة التى شارك فيها أكثر من مليونين من البريطانيين ضد قرار حكومة تونى بلير المشاركة فى العدوان الأمريكى على العراق عام 2003. ووجدت أنها تتحول إلى ساحة للجدل الحر، والنقاش السياسى العقلانى المستنير فى دوافع كل متظاهر، وأسباب مشاركته، وتفنيد الحجج الداعية للتظاهر أو المعارضة له، بالصورة التى يتعمق بها وعى المشاركين فى المظاهرة بقضيتهم، وتتسع معارفهم ومداركهم بشأنها. فالمظاهرات بهذا المعنى أداة من أدوات تعزيز الديمقراطية العقلية، وهى إحدى صور الحوار الحر العقلانى الراقى وواحدة من أبرز تجلياته، كما أنها تتحول فى كثير من الأحيان إلى حاضنة لإبداعات العقل الجمعى عبر شعاراتها وأغانيها الوطنية المعارضة. لذلك فإن ما تقوم به جماعة الإخوان المسلمين فى مصر من حشد قطيع المؤيدين الذين لا يعرف أغلبهم أسباب الحشد ولا أهدافه، تأييدًا لقرارات سلطة فى الحكم، تحشد مؤيديها كى تمرر طبخة مشبوهة، أو تموه على ما فيها من سمّ زعاف، لا علاقة له من بعيد أو قريب بالممارسات العقلية أو الديمقراطية. وإنما هو جزء أساسى من استراتيجيات نقيضيها: الديماجوجية والفاشية. والديماجوجية هى التوجه لعواطف القطيع والمجموعات الأقل وعيًا، والأكثر جهلًا، والأشد انحيازًا وتعصبًا، من الفقراء عادة (وهنا دور الزيت والسكر)، من أجل حشدهم لتنفيذ غايات سياسية لا يمكن تمريرها بشكل عقلى أو ديمقراطى. وتتسم الديماجوجية عادة بمعارضة الحوار العقلى والإقناع، فلا طاقة لها عليه. ورفض التأنى فى التعامل مع المشكلات، واستخدام العنف كوسيلة فورية ومفضلة للحسم وقت الأزمات الوطنية. كما تلجأ عادة إلى وصم أعدائها بصفات مثل الضعف والكفر والخيانة والانتماء إلى كل ما هو مكروه. أما الفاشية فهى النزعة التسلطية لتوحيد الجماعة خلف شعارات متعالية غامضة وفضفاضة تعتمد على المباهاة بالسلف أو الأصل أو العرق أو الدين، وعلى إقصاء كل من لا ينضوى تحت تلك الشعارات ولا يدين لها بقواعد السمع والطاعة، واستبعاده من الجماعة الوطنية، وأحيانًا من الجماعة الإنسانية ذاتها. كما تعتمد على شمولية الفكر والتنظيم معًا، من أجل تحريك الجماهير العمياء بالقواسم المشترك الدنيا لديها: من الاستقواء الجبان بالحشد، إلى الافتخار الأبله بالعنف، إلى التدريبات البدنية الآلية، إلى التحقق الكاذب بالتحرك ضد أعداء الحزب أو التنظيم، وحماية الزعيم الذى يسعى دومًا للاستئثار بالسلطة بشكل فردى وديكتاتورى. لذلك يلجأ كل من الديماجوجية والفاشية دومًا إلى الحشد، وليس التظاهر، وإلى الترديد القطيعى لمجموعة من الشعارات المسكوكة سلفًا فى أروقة التنظيم. ولا يحسبن أحد أننى أقدم هنا توصيفًا لممارسات جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وإنما أترجم عن دائرة المعارف التى تقدم تعريفها لهذين المصطلحين المعروفين فى العلوم السياسية. وإذا ما بدا الأمر هنا وكأنه توصيف لما قامت به الجماعة منذ إصدار الرئيس محمد مرسى إعلانه أو انقلابه الدستورى، فلأن ممارسات الجماعة لا علاقة لها بالتظاهر السلمى الديمقراطى، وإنما بالحشد الفاشى الديماجوجى وراء رئيس فى السلطة، يريد أن يمرر تلك الطبخة المسمومة التى تتكون عناصرها من التوقيع على قرض بالمليارات يكبل الاقتصاد المصرى بآليات النهب والخراب، ويكرس إفقار الفقراء، ونزح الأغنياء لثروات الوطن وتهريبها للغرب كى ينتعش اقتصاده ويواصل اقتصادنا التخبط والانهيار. ومن تمرير دستور مرفوض صادر عن لجنة تأسيسية معيبة ومنقوصة الشرعية. دستور لا يحقق أهداف الثورة فى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، بل يتحول إلى عقبة كأداء أمام تحقيق أى منها. لأنه دستور يتستر وراء رداء تطبيق الشريعة الفضفاض، على الزراية بالحريات العامة منها والخاصة، ويكبّل حق التعبير والإبداع، وينتقص من كرامة الرجل والمرأة على السواء، وييسر عمليات الاحتكار والاقتراض والنهب وبيع أراضى الوطن، ويسهم فى الإطاحة بآليات الديمقراطية وتداول السلطة. فقد خلق هذا الإعلان الدستورى، أو بالأحرى غير الدستورى، مأزقًا جديدًا يحاول أن يعيد إنتاج مأزق الاختيار المر بين شفيق ومرسى، بين الفِل والاستبن، والذى وجد الشعب المصرى نفسه أمامه، بلا خيار تقريبًا، فى جوله الإعادة فى انتخابات رئيس الجمهورية قبل شهور. أما الفِل هذه المرة فهو الإعلان الدستورى الذى يعيد إنتاج نظام مبارك بصورة أسوأ. إذ يمنح بمقتضاه الرئيس مرسى نفسه صلاحيات فرعونية، يصدر بمقتضاها فرمانات محصّنة من كل سوء. ويعصف باستقلال السلطة القضائية باسم حماية الثورة والثورة منه براء. ولا سبيل أمامنا للتخلص من سيئات هذا الإعلان المطلقة، كما يبشرنا الدعاة له، إلا بالموافقة على طبخة الدستور الذى يحد من تلك السلطات، ويلغى الإعلان بمجرد تمريره. وأما الاستبن فهو الدستور المعيب وطبخته المسمومة التى تنطوى على الإجهاز على أى أمل فى تحقيق أى هدف من أهداف الثورة، وعلى خلق المناخ والآليات التى ستتيح للإخوان التأبيد فى السلطة. وما فرعهم الفلسطينى المعروف باسم «حماس» إلا خير شاهد على مبدأ الإيمان بديمقراطية انتخابات المرة الواحدة التى تجىء بهم للسلطة، ولا تقوم للديمقراطية أو للانتخابات بعدها قائمة. فقد انقضت أكثر من سبع سنوات على بقاء حماس فى السلطة دون أى انتخابات، فأهون عليهم شق الصف الفلسطينى من أن تجرى انتخابات أخرى قد تقصيهم عن السلطة. أو حتى تقسيم البلد والتخلى عن نصفه الغنى كما حدث فى السودان من تداول السلطة. هكذا تتضح معالم الطبخة المسمومة، إما الفِل الجديد أو الاستبن الجديد، لأن الديكتاتورية لا تفضى أبدًا للحرية أو لتداول السلطة، حتى ولو أفضت إلى تمرير دستور معيب يتخفّى تحت قناع دينى أوضحت فى مقال الأسبوع الماضى أهداف مَن يدعون لتقنيعه به. فقد لاحظت من خلال مراقبتى لما يدور عن بعد أن أهم ما حققه الرئيس محمد مرسى منذ توليه الرئاسة قبل خمسة أشهر، هو أنه مكّن الإخوان بأجسادهم أو بأيديولوجيتهم من السيطرة على أداتَى السلطة الأساسيّتَين اللتين أدار بهما مبارك نظامه: وهما الشرطة والإعلام الرسمى. فمشاهدة الإعلام المصرى الرسمى وتغطيته لما يدور فى مصر منذ هذا الإعلان غير الدستورى، تعيد للأذهان أداء إعلام أنس الفقى وأكاذيبه، ولكن يرددها هذه المرة كوادر الإخوان بدلًا من نظام مبارك ولجنة سياسات نجله. أما الشرطة فقد عادت لضرب المتظاهرين وإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع عليهم منذ الاحتفال بذكرى أحداث محمد محمود، كما بدأت فى إسقاط المزيد من الشهداء منهم، كى يتاجر الإعلان الدستورى ومنظّرو الإخوان الذين ينتشرون كالجراد فى أجهزة الإعلام بالقصاص لهم.