كثيرا ما نصادف فى حياتنا نوعين من البشر، من يحسنون الكلام، ومن يجيدون العمل. وإذا أردت أن تعرف حظ مجتمع من الازدهار، فانظر أىَّ نوع من هؤلاء يحظى بالمكانة، ومنْ منهم الأقرب إلى تقلد المناصب القيادية والتنفيذية فى أى مؤسسة، ومن منهم يحقق قفزات فى سجله المهنى أو الوظيفى. من المؤكد أنك الآن تمصمص شفاهك حسرة على المجتمع المصرى، الذى شهد على مدار ستين عاما العصر الذهبى لأساتذة النفاق والمداهنة والموالسة، أى باختصار أساتذة فن معسول الكلام. فحيثما وليت وجهك سوف ترى هؤلاء يحتلون قمة الهرم الوظيفى فى كثير من المؤسسات. ويبدو أن ثورة 25 يناير لم تُفلح بعد فى هز مملكة المنافقين، الذين يتلونون كل صباح بحسب ترمومتر السلطة. هؤلاء المنافقون ليسوا أخطر كثيرا من المدَّعين، الذين قفزوا على آخر عربة فى قطار الثورة، حين تأكد لهم أن النظام السابق يتفتت بفعل أعاصير الاحتجاج الشعبى. فقد أسرعوا فى ارتداء أقنعة الثوار، وتسابقت شفاههم وأقلامهم فى تبجيل الثورة، وشحذوا أسلحتهم لمهاجمة النظام البائد. وتناسى أغلبهم أنهم كانوا أعمدة هذا النظام ورجاله ومخالبه أيضا. آملين فى أن يمارس الشعب عادته فى النسيان، ويغض الطرف عن مقالاتهم التى كانت تتهم الثوار بالخيانة، وخطبهم التى كانت تكفر الاحتجاج ضد الظلم، تحت دعوى الخروج على الحاكم. كلما سمعت لأحد من هؤلاء خطبة، أو قرأت مقالا أتذكر وقائع حادثة شاهدها المفكر المصرى قاسم أمين فى إحدى سفرياته فى دلتا مصر، وسجلها فى مذكراته كما يأتى: «قبيل الغروب وقف بنا (وابور النيل) الذى كان يحملنا بجانب غيط مزروع، وكان يشتغل فيه رجلان، لمح أحدهما ثعبانا غليظا قصيرا، ففر وهو يصيح (ثعبان ثعبان ثعبان). أما الآخر فتقدم إلى الثعبان حاملا فأسه وضربه بها عدة ضربات حتى قضى عليه، ثم تركه فى مكانه، وأخذ سلاحه وعاد إلى عمله، ولم يتكلم فى أثناء ذلك بكلمة، وحينئذ تحرك زميله ومشى محترسا على أطراف قدميه شاخصا إلى الحيوان، واقترب منه بطيئا بطيئا، ولما وصل إليه لمسه بطرف الفأس التى كانت فى يده، وقلَّبه مرة ثم مرة أخرى حتى إذا تحقق أنه مات صاح (يا ابن الكلب!) وطعنه بالفأس طعنة قوية. ولما رأى الثعبان لا يتحرك أمسكه من ذنبه وصعد به إلى الجسر. وكان فى هذه الساعة عامرا بالمارة، فاستوقف الأطفال والنساء والرجال، وصار يقص عليهم الواقعة، قائلا (هجم علينا فقتلناه)، وفى آخر الرواية يُلقى الثعبان على هذا الجمع فيفرقهم وتصيح النساء، ويهرب الأطفال، فيضحك هذا البطل الباسل من هذا الجبن. وما زال كذلك حتى جاء الظلام، فانصرفوا جميعا، وهو فى مقدمتهم حاملا فريسته». ويعلق قاسم أمين على ما رآه قائلا «أليس هى الحال دائما فى جميع مظاهر الحياة الدنيا، ترفُّع من رجال العمل عن حب الظهور، وجرأة من رجال القول على اغتصاب أعمال غيرهم والتبجح بها». أمثال هذا الرجل هم الآن من يحتلون ساحات الكلام، ويعتلون المنابر، متحدثين عن «ثورتهم»، بينما يلقون فى وجوه الحاضرين ثعابينهم الغليظة. لكنها لسوء الحظ ليست ثعابين ميتة، بل ثعابين حية متعطشة لبث سمومها فى جسد الوطن، فتؤلب على الفتن، وتحض على الكراهية، وتتوعد بالويل والثبور كل من يعارض أو يخالف أو يحتج. هؤلاء الذين ارتدوا ثياب البطولة بعد انتهاء المعركة، وانتشوا بنصر لم يكونوا صانعيه، هم الأعلى صوتا والأكثر استعراضا، والأقل عملا وإنجازا. لا تتقدم المجتمعات بنفاق المنافقين ولا بادعاء المدعين. ولا يصلح حال شعب ولَّى أمره لمن لا يملكون إلا الكلمات المنمقة. ولكى نبنى ما خربه المنافقون والأدعياء علينا أن نزيل ورق التوت الذى يختفون وراءه، كى يراهم الناس على حقيقتهم. وأن لا نهاب ثعابينهم الغليظة، ونتحاشها ونرضخ لها، بل أن نفعل تماما كما فعل الفلاح الصامت مع الثعبان الغليظ. وعلينا قبل كل شىء أن نحرص على أن نكِل أمورنا، الصغير منها والكبير، إلى هؤلاء الذين يخلصون فى العمل، وإن لم يعجبنا قولهم. هؤلاء الذين يقولون ما تمليه عليهم ضمائرهم وصالح الوطن، لا ما نرغب نحن فى سماعه، هؤلاء الذين لا يدغدغون مشاعرنا ويتملقوننا، ثم لا نجنى من ورائهم سوى الخسران، بل من يواجهوننا بعيوبنا ونقائصنا، ويعينونا على التخلص منها. لقد عاشت مصر مرتعا للنفاق والادعاء، حين كانت السلطة بأيدى قلة تتصرف فيها كيف تشاء، فلم نجن سوى التخلف والتدهور، والفقر والمذلة. وإذا كنا نحلم بمجتمع أفضل، فى وقت استرد فيه الشعب السلطة لنفسه، فعلينا أن نحرص على تصفية دولة المنافقين والأدعياء، لنؤسس دولة المخلصين الأكفاء.