لم تعد مشاهد العنف في الولاياتالمتحدة أحداثًا معزولة أو استثناءات شاذة في مجتمع يفاخر بتقاليده الديمقراطية، بل صارت جزءًا من المشهد اليومي، تتناسل من رحم خطاب الكراهية الذي يتغذى على الاستقطاب السياسي، والانقسام العرقي، وتوترات الشرق الأوسط التي تجد انعكاسها المباشر في شوارع نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس. حادثة الاعتداء على الناشط المحافظ تشارلي كيرك لم تكن سوى حلقة جديدة في سلسلة عنف تتسع دائرتها، تربط بين مسرح السياسة وخطاب السلاح والعنف ومنصات التواصل الاجتماعي التى أصبحت مرآة تعكس كراهية الغير مهما كان، وتعيد طرح السؤال: هل باتت أمريكا عاجزة عن كبح جماح العنف الداخلي الذي يهدد نسيجها الاجتماعي؟ العنف سيد الموقف منذ أيام قليلة، تحول لقاء عام للناشط اليميني تشارلي كيرك إلى مشهد دموي، بعدما تعرض لإطلاق نار من شاب متأثر بخطاب معاد للتيار المحافظ. وسارع الرئيس دونالد ترامب إلى اتهام «اليسار الراديكالي» بالوقوف وراء اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك -31 عامًا- وعلى الجانب الآخر اتهم الديمقراطيون خطاب الكراهية الذي انتهجه ترامب وأتباعه وجماعته «ماجا» وراء اشتعال الكراهية في البلاد. بدأ كيرك نشاطه السياسي في سن مبكرة جدًا حينما انضم إلى مجموعات «حزب الشاي» المناهضة لسياسات الرئيس السابق باراك أوباما، ثم انضم بعدها إلى التيار المحافظ الذي يقوده الرئيس ترامب، وما يعرف بحركة «ماجا» ذات النفوذ السياسي والاجتماعي القوي حاليًا. اتسم خطابه بنظرة دينية مسيحية قوية، تواجه التيارات اليسارية للحزب الديمقراطي، وتحاول إعادة تشكيل المجتمع الأمريكي على أساس قيم الديانة المسيحية ومفاهيم الأسرة وغيرها من القيم الاجتماعية الأخرى. وأثار خطابه السياسي فيما يتعلق بقضايا حقوق الأقليات والهجرة جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية الأمريكية. كان كيرك من أكبر المدافعين عن حرية حمل السلاح في الولاياتالمتحدةالأمريكية – بما يكفله الدستور الأمريكي – الأمر الذي يشاركه فيه الكثير من المحافظين الأمريكيين. ومن المفارقات العجيبة أن كيرك أقر – في أثناء دفاعه عن حق تملك السلاح – بإمكانية حدوث حالات قتل لأبرياء لا يمكن تجنبها جراء ممارسة هذا الحق الدستوري. وعلى الرغم من أنه لا يزال الكثير غامضًا عن المشتبه به في مقتل كيرك، إلا أن المتاح من المعلومات حاليًا يشير إلى أنه طالب يبلغ من العمر 22 عامًا، أظهر اهتمامًا ملحوظًا بالسياسة مؤخرًا، ولا يبدو في سجله الانتخابي انتماء إلى حزب سياسي محدد. ويبدو أن تايلر روبنسون – المشتبه به في قتل تشارلي كيرك – قد تلقى تدريبًا عاليًا في إطلاق النار، ليحقق هذه الدقة في التصويب التي جعلته يصيب كيرك في عنقه برصاصة قاتلة واحدة من مسافة تبعد أكثر من 130 مترًا من فوق سطح أحد المباني بجامعة يوتا فالي، وذلك قبل أن تظهره بعض الفيديوهات يركض فوق سطح أحد المباني، ثم يقفز إلى الأرض ليلوذ بعد ذلك بالفرار. من المتحف اليهودي إلى فيرمونت لم تكن حادثة كيرك الأولى، ولن تكون الأخيرة. ففي مايو 2025، وقع إطلاق نار بالقرب من المتحف اليهودي الوطني في واشنطن العاصمة، حيث أطلق مسلح النار خارج المتحف خلال فعالية «استقبال الدبلوماسيين الشباب» التي استضافتها اللجنة اليهودية الأمريكية، مما أسفر عن مقتل اثنين من موظفي سفارة إسرائيل. وفي عام 2014 اهتزت بروكسل على وقع إطلاق نار استهدف المتحف اليهودي، وأسفر عن مقتل أربعة أشخاص، بينهم إسرائيليان. وفي الولاياتالمتحدة، تتكرر الحوادث التي تحمل البصمة نفسها: •حادثة معبد «تري أوف لايف» في بيترسبرج عام 2018، حيث قتل 11 يهوديًا •جريمة قتل الطفل الفلسطيني الأصل وديع الفيومي في إلينوي عام 2023 بدافع الكراهية بعد اندلاع حرب غزة، فى واحدة من أبشع جرائم الكراهية •هجوم مسلح على ثلاثة طلاب فلسطينيين في فيرمونت، أعاد تسليط الضوء على تصاعد العنف ضد العرب والمسلمين..تقول مؤسسة مكافحة التشهير ADL في تقريرها السنوي: «شهدنا ارتفاعًا غير مسبوق في حوادث معاداة السامية والإسلاموفوبيا بنسبة تجاوزت 360 % منذ حرب غزة، وهو مؤشر خطير على أن خطاب الكراهية تجاوز مرحلة الكلمات إلى الأفعال». صراع الشرق الأوسط لم يعد الصراع في غزة بعيدًا عن الداخل الأمريكي. فالمظاهرات المؤيدة لإسرائيل أو فلسطين غالبًا ما تتحول إلى مواجهات عنيفة في الجامعات والشوارع. يقول مايكل هانا، الباحث في مركز "The Century Foundation" : «السياسة الخارجية الأمريكية، وخاصة الانحياز المطلق لإسرائيل، انعكست مباشرة على الداخل، لتصبح الجامعات الأمريكية ساحات حرب بالوكالة»، مضيفًا أن ذلك يضع الديمقراطية الأمريكية أمام تحد غير مسبوق في قدرتها على استيعاب التعددية. رصاص الكلمات لا يمكن فهم تصاعد العنف دون التوقف عند دور وسائل التواصل الاجتماعي. فهذه المنصات تحولت إلى ساحات تحريض مفتوحة. يشير تقرير مركز بروكينجز الصادر في يونيو 2025 إلى أن «خوارزميات المنصات تدفع بالمحتوى الأكثر إثارة، ما يضاعف فرص وصول خطاب الكراهية والتحريض إلى ملايين المستخدمين، خصوصًا الشباب. هذا التفاعل المستمر يحول الغضب الافتراضي إلى استعداد فعلي للعنف في الواقع». العرب واليهود الجاليات اليهودية والعربية في أمريكا باتت تعيش في حالة استنفار دائم. بينما يشكو يهود من تصاعد معاداة السامية، حيث تحذر منظمات عربية ومسلمة مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (CAIR) من «موجة شيطنة ممنهجة». وقال نهاد عوض، المدير التنفيذي ل CAIR: «نواجه لحظة فارقة، حيث يستخدم الصراع في غزة كذريعة لزيادة التحريض ضد المسلمين والعرب، وهو ما يعرض مجتمعات بأكملها للخطر»، مطالبًا الإدارة الأمريكية بوضع استراتيجية واضحة لحماية الأقليات. الكابيتول والشارع لم يكن اقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير 2021 حدثًا معزولًا. لقد كان إشارة مبكرة إلى أن العنف بات وسيلة مشروعة. يقول لاري سابين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن: «الحد الفاصل بين النقد السياسي والتحريض على العنف تآكل إلى درجة خطيرة، وهو ما يجعل أي حدث صغير قابلًا للتحول إلى انفجار دموي»، مشيرًا إلى أن استمرار هذا المسار سيضع المؤسسات الأمريكية أمام اختبار غير مسبوق. بين العنف والأمن في تقرير صادر عن مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في يوليو 2025 أكد أن «التحدي الحقيقي أمام الولاياتالمتحدة ليس في السيطرة الأمنية على موجات العنف، بل في معالجة جذورها المتمثلة في الاستقطاب السياسي، غياب العدالة الاجتماعية، وصعود الخطاب الشعبوي الذي يشرعن الكراهية»، مضيفًا أن أي حلول أمنية ستظل مجرد مسكنات مؤقتة. 2