السلطة فى مصر أخرجت أنيابها، وبدأت تحاسب النشط من الشعب على أفعاله، تريد أن تعيده إلى موقع الأنتخة المبهج. أوقفت تراخيص قنوات فضائية، فرغت الإضرابات من جدواها، حظرت الاعتصامات. كعادة كل فاشل من المستبدين. لا مشروع لديهم ولا رؤية إلا الأنتخة، وراحة الدماغ. وزير الإعلام أسامة هيكل، الذى كانت وظيفته السابقة رئيس تحرير لصحيفة فاشلة تعبر عن حزب أنتخة أصيل، لام نظام مبارك قبل الثورة بيوم واحد، لأنه اعتمد طريق «أن يقول الشعب ما يريد، وأن تفعل الحكومة ما تريد»، وحين صار فى السلطة غير هذا تماما، فاعتمد طريق «أن لا يقول الشعب ما يريد وأن يسمع ما نريد». أى قمة الأنتخة. جهاز الإذاعة والتليفزيون الرسمى لم يختلف كثيرا عما كان قبل الثورة. نفس الشهشقة والمسكنة والكلام الأجوف التلقينى ذى الاتجاه الواحد. ليس فقط فى الملف المصرى، بل حتى فى الملفات الخارجية كالملفين السورى والليبى. هو صوت للسلطة لكى يسمع منه الشعب ما تريده أن يسمع، دون أن يرهق نفسه بالتفكير والتعرف على وجهات النظر. ولا أتخيل أن إعلاميا يحترم نفسه ومهنته ممكن فى أجواء بعد ثورة أن يعمل فى جهاز كهذا ولا يحتج إلا لو كان «مغرقا فى الأنتخة». وعلى الجانب الآخر، بعد أقل من 48 ساعة على إعلان السلطة أنها لن تمنح تراخيص جديدة وستغلق القنوات الخاصة التى ليس لها ترخيص، أغلقت قناة «الجزيرة مباشر». ومن حق السلطة كما من حق الأفراد أن تحاسب القنوات بالقانون، فإن أجرمت فى شىء احتكمت السلطة إلى القضاء وعاقبتها. لكن هذا يحتاج إلى مجهود، والأستاذ أسامة هيكل، مثله مثل الجو العام، يفضل الأنتخة. قرار فرمانى يريح الدماغ. وإلا لو فتحنا موضوع محاسبة الناس على ما يقولونه فى الإعلام، فسنفتح الباب لمحاسبة مسؤولين أقروا بترويج شائعات، وحرضوا ضد اتجاهات سياسية دون تقديم دليل. ورجال الأعمال عندنا عودهم النظام السابق على استخدام قانون الطوارئ لحمايتهم من إضرابات العمال، ليسمح لهم بأجواء أنتخة مثالية تشجعهم على الاستثمار. ومرة أخرى، كتبت هنا أكثر من مرة مدافعا عن الاستثمار وتشجيعه ومناصرا للسوق الحرة، لكن هذا يجب أن لا يكون على حساب العمال. وفارق كبير بين تقنين إجراءات الإضراب وتفريغه من جدواه. حين اشترط على العمال أن يبلغوا عن الإضراب قبلها بمدة معينة، فهذا تقنين للإجراءات، حين اشترط عليهم أن يدخلوا فى مفاوضات مع الإدارة أولا فهذا تقنين للإجراءات، حين اشترط عليهم أن يبلغونى بمدة الإضراب (ومن حقهم أن يكون مفتوحا) فهذا تقنين للإجراءات. لكن حين أشغّلهم بمرتبات دون الحد الأدنى للأجور، وبظروف عمل لا تحترم صحة الإنسان، ولا يستخدم القانون ضدى لإجبارى على احترام حقوقهم، بل لحمايتى من غضبهم واعتراضهم، فهذا سمت الدول المستبدة، التى لا تريد أن ترهق نفسها ورجالها المقربين بكل تلك الأمور، وتفضل قرارا فرمانيا يغلق الموضوع ويتيح لها وقتا للأنتخة. ومن أنصار الأنتخة السياسية أيضا الحصيف الحكيم الشيخ عاصم عبد الماجد الذى خرج ليقول لنا إن كل ما حدث فى جمعة «تصحيح المسار» هدفه تعطيل الانتخابات. ولله فى خلقه شؤون! وهذا نوع خاص وعالٍ من الأنتخة. تحفظ جملة واحدة وترددها فى كل مناسبة، بغض النظر عن الوقائع. والواقع أن مطلبا رئيسيا من مطالب الجمعة كان الإعلان عن جدول زمنى لتسليم السلطة. لم يقل لنا الشيخ ماذا فعل هو لكى تجرى الانتخابات فى موعدها؟ وهل يعتقد أن أجواء إغلاق القنوات الفضائية وتقييد الحريات هى التى ستعجل بالانتخابات؟ اللهم عجل بالانتخابات لكى يرحل عنا المؤنتخون القدامى، ويأتى لنا مؤنتخون جدد... أهو تغيير برضه، على قدر أهل الأنتخة.