وطنك إذن ليس إلهك الذى تقدمين له القرابين -دون سؤال- ليرضى، إنما هو خليط من ابنتك وأمك، وشقتكم فى الطابق الثانى، وبيت أهلك فى قرية أعمامك أو أخوالك، والغيطان التى حولهما، والبحر وذكرياتك هناك، والآثار التى زرتِها فى رحلة مدرسية ولعبت حولها استغماية. وفى عصير الوطن أيضا مكان عملك الذى تحبينه وتكرهينه لكنك تدركين أنه مصدر رزق أولادك، ومشروع صغير تحلمين بأن تنجزيه. حتى سيارتك أو دراجتك أو المينى باص الذى تأخذينه من أول الخط لتجدى مكانا، هذه أجزاء أساسية من وطنك. ألبوم ذكريات المشاعر والآمال والمخاوف والقلق والطموح والخيال والنقمة والحب الذى تحملينه من مكان إلى مكان. وطنك ليس إلهك الذى يأمر فيطاع دون سؤال عن السبب، ولا له أنبياء يتحدثون باسمه، ولا ينبغى أن يدّعى أحد أن الوطن تحدث إليه «فلبّى الندا»، ولا أن ما يقوله باسم الوطن هو الحق وأن ما بعده الضلال. كثيرون يريدون أن يفعلوا هذا الدور. لكنك تعلمين أنهم كذابون. فوطنك ابنتك التى حين تريد أن تتحدث تتحدث إليك مباشرة. بل حتى دون أن تتحدث، وقبل أن تتحدث، كنت تعلمين ماذا تريد. قد تستطيعين تقديمه كله وقد تقصرين عما يفوق حدود طاقتك، لكنك فى كل الأحوال تعلمين ولا تريدين وسيطا بينك وبينها، ولا بينك وبينه. ولا ينبغى أن يدعى أحد عصمة وطن، وأن يبنى على العصمة ثباتا فى المواقف لأنها صالحة لكل زمان ومكان. فالمواطنون الخطّاؤون ينشئون وطنا خطّاء، والمواطنون الجيدون ينشئون وطنا جيدا. ليس هناك شىء اسمه «وطنية المصدر» كما هناك «ربانية المصدر». والوطن لا يعرف الصفح والغفران بالتوسلات وصدق النية. الوطن يعرف البناء والهدم، والإصلاح والإفساد، والتنظيف والتوسيخ. لو ألقيت كيس قمامة فى وطنك فلن يرفعه عنك بالدعاء، ولا بذكر الوطن، ولا باستغفاره والتسبيح بحمده، بل عليك ببساطة أن ترفعيه من مكانه. وطنك عيالُكِ، ومشروعك الذى تخططين له، وتتمنين له النجاح وتثقين به، لكنك تخشين الفشل، لأنك لا تملكين ضمانة «فوقية» للنجاح، بل عليك أن تكدّى فى التفكير فى وسائل إدراك النجاح. ومن ثم، ليس فى حق الوطن إثم وثواب إلا حين ينتهك الحد الأدنى من قواعد صلة الرحم، من قواعد أمانة التعامل، من قواعد إنجاح التجارة. كل ما سوى ذلك اجتهادات. فى رعايتك ابنتك وأمك ومصدر رزقك تستمعين إلى صوت قلبك وعقلك معا (تعلمين أن القلب وحده سيضرهم)، تبحثين عن استشارة ذوى المعرفة ويبقى التنفيذ بيدك والقرار قرارك. افعلى نفس الشىء مع وطنك. فليس هناك وصفات وطنية جاهزة، إلا هذا المعيار البسيط: أن تتعاملى مع وطنك بنفس الطريقة التى تتعاملين بها مع «بيتك» وعالمكم الضيق المحيط بكم. ألا تفكرين لهم فى الأحسن؟ ألا ترتبين أولوياتك؟ ألا تعلمين أن ما تفعلينه اليوم مردود عليك غدا؟ ألا تحرصين على نظافتهم، ورفاهتهم، وصحتهم، وسلامتهم؟ هكذا والله الأوطان. ماذا تستفيد ابنتك لو كنت تضربينها فى النهار، وتهملين فى تنظيف ملابسها وتغذيتها، ولا تهتمين بتعليمها، ولا تهتمين بنظافة البيت الذى تعيش فيه، ثم تأخذينها آخر الليل إلى سريرها وتغنين لها أغنية حب عظيمة، وتقبّلينها ألف قبلة؟! ماذا تستفيد؟! ستنغلق على ذاتها، وتباعد المسافة بينك وبينها. كما انغلقت كل أسرة مصرية على ذاتها وباعدت المسافة بينها وبين من حولها (ومن حولها باقى الوطن). وكما انغلقت مصر وابتعدت عن العالم لأنها -فى الحقيقة- صارت تستحيى من قدراتها، وصارت بعيدة عن المستوى التنافسى، وصار الأعلى صوتا فيها هم الأكثر كسلا وفسادا وإفسادا. ولستِ هنا وحدك، سأكون معك، مصر كذلك بالنسبة إلىّ أيضا، أسرتى والبيوت التى عشت فيها والتى زرتها وأصدقائى والطرق التى أستخدمها والمدارس التى تعلمت فيها والأعمال التى تكسبت منها. أريد أن أرى نفسى وهؤلاء فى أحسن حال، وأجتهد لكى أفعل هذا، أصيب وأخطئ، وأحاول أن أتعلم، وأخطئ، وأتعلم، وأصيب، وأخطئ. وأتعلم. تعجبنى كلمة وطن بالإنجليزية = بيت.