يقول عز وجل فى سورة الكهف: «وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا». ويقول المفسرون إن الآيات قد نزلت فى حق جماعة من الصحابة الكرام، يأتى على رأسهم الصحابى خباب بن الأرت. تعد السيرة الذاتية لخباب من السير الملغزة فى دواوين التاريخ الإسلامى. نحن نكاد لا نعرف عن طفولته وبداية شبابه شيئا ذا بال، حتى نسبه مختلف عليه، والمشهور من نسبه أنه خباب بن الأرت التميمى، وكنيته أبو يحيى وقيل أبو عبد الله. هذه المعلومات الشحيحة لا تليق بواحد يعد سابع سبعة كانوا أول من جهروا بإسلامهم. فى ظرف ما تحاربت قبيلة خباب التى لا نعرف عنها شيئا مع قبيلة أخرى، وكانت من نتائج المعركة أن خبابا قد وقع فى الأسر، وذهبوا به إلى سوق الرقيق بمكة ليتم بيعه، فاشترته سيدة تدعى أم أنمار بنت سباع الخزاعية. ومن الواضح أن تلك السيدة كانت تريد استثمار ما دفعته ثمنا فى خباب لأقصى حدود الاستثمار، فقد دفعت به إلى حداد لكى يعلمه صناعته، وبالفعل تعلم خباب صناعة الحدادة وتخصص فى صناعة السيوف حتى كان أبرع صانعيها فى مكة. الكتب التى بين أيدينا لا تذكر شيئا عن تعلم خباب القراءة والكتابة، ولكن سياق حياته لا يشير فحسب إلى تعلمه القراءة والكتابة، بل يؤكد أنه كان مثقفا بالمعنى العصرى والحديث للمصطلح، فمتى تعلم خباب القراءة والكتابة؟ لا نعرف عن ذلك شيئا. وكيف تجرأ على اتخاذ هذا القرار المهم والصعب بين قوم تفشت فيهم الأمية؟ تاريخ الرجل يغفل كل تلك التفاصيل المهمة. محنة الاختلاف مثل كل متعلم مثقف، لا شك أن خبابا قد تأكد من فساد مجتمعه، وتاق إلى الخلاص من ذلك الفساد الذى يحاصر مجتمع مكة من أقصاها إلى أدناها، فما إن سمع بدعوة الرسول حتى أعلن إسلامه، ويروى لنا مؤرخو حياته المحادثة التالية التى تكشف عن تغلغل الإسلام فى قلب وعقل خباب. يقول المؤرخون: كان خباب سيافا، يصنع السيوف ويبيعها لقريش، وفى يوم إسلامه جاء إلى عمله، وكان هناك نفر ينتظرون فسألوه: «هل أتممت صنع السيوف يا خباب»، فقال وهو يناجى نفسه: «إن أمره لعجب». فسألوه: «أى أمر؟». فيقول: «هل رأيتموه؟ وهل سمعتم كلامه؟»، وحينها صرح بما فى نفسه: «أجل رأيته وسمعته، رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه»، وفهم القرشيون فصاح أحدهم: «من هذا الذى تتحدث عنه يا عبد أم أنمار؟». فأجاب: «ومن سواه يا أخا العرب، من سواه فى قومك يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور من بين ثناياه؟»، فهب آخر مذعورا قائلا: «أراك تعنى محمدا؟». فهز خباب رأسه قائلا: «نعم إنه هو رسول الله إلينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور». تلك المحادثة كانت هى البداية لعذاب وآلام جديدة قادمة. الاضطهاد والصبر لم يكن لخباب من يمنعه سوى الله من أيدى زبانية قريش الذين كانوا يذيقونه أشد ألوان العذاب، فقد حولوا الحديد الذى بمنزله إلى سلاسل وقيود يحمونها بالنار ويلفون جسده بها، وهم لا يريدون منه سوى كلمتين اثنتين فقط «كفرتُ بمحمد»، ولكن خباب بن الأرت كان الإسلام قد ملأ جوانحه، فلم يعطهم الكلمتين ولا ما هو أقل منهما، لقد قاوم زبانية التعذيب ثم انتصر فى نهاية الأمر. ومن حسن حظنا أن الصحابى الجليل قد سجل تلك الوقائع بلسانه هو، يحدثنا فيقول: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون». الأستاذ فى الأيام التى كانت تقل بها حفلات التعذيب كان خباب يمارس دور الأستاذ المعلم (وهذا ما يقطع بأنه كان متعلما)، إذ كان يذهب إلى بيوت المسلمين الذين يكتمون إسلامهم خوفا من المشركين، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم إياه. هذا الدور كان خطيرا جدا فى تلك الأيام، وكان من الوارد أن يدفع خباب حياته ثمنا لهذا الدور، إنه بقراءته ينشر الإسلام الذى تحاربه قريش بكل قوتها. دور الأستاذ ذاك سيكون سببا مباشرا فى إسلام الخليفة عمر بن الخطاب. يقول المؤرخون: لقد نبغ خبّاب فى دراسة القرآن آية آية، حتى اعتبره كثيرون ومنهم عبد الله بن مسعود مرجعا للقرآن حفظا ودراسة، كان خباب بن الأرت يذهب إلى فاطمة بنت الخطاب شقيقة عمر يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد قتل رسول الله، فذكروا له أنهم اجتمعوا فى بيت عند الصفا، فلقيه نعيم بن عبد الله، فأخبره بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو، فرجع عمر إلى أخته وزوجها وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا صوت عمر اختبأ خباب، فأخبرهما عمر بما سمع وبطش بزوج أخته سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجَّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وزوجها: نعم، لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، وطلب من أخته الصحيفة ليقرأها، فأمرته أن يغتسل حتى تعطيه الصحيفة، فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها «طه» فقرأها، فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له: والله يا عمر، إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإنى سمعته أمسِ وهو يقول: «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب»، فاللهَ الله يا عمر. فقال عمر: دلنى يا خباب على محمدٍ حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو فى بيت عند الصفا، معه نفر من أصحابه. وذهب عمر وأسلم. الدنيا كان خباب من أوائل الصحابة هجرة من مكة إلى المدينة، وقد خاض كل المعارك تحت قيادة الرسول، ثم رسخت قدما الإسلام وعلا شأن دولته وأقبلت الدنيا على الصحابة وعن ذلك يقول خباب: «لقد رأيتنى مع رسول الله ما أملك دينارا ولا درهما، وإنّ فى ناحية بيتى فى تابوتى لأربعين ألفا، ولقد خشيت الله أن تكون قد عُجّلتْ لنا طيّباتنا فى حياتنا الدنيا». عندما فاض بيت مال المسلمين بالمال أيام عمر وعثمان، كان لخباب راتب كبير بوصفه من المهاجرين السابقين إلى الإسلام، فبنى دارا بالكوفة، وكان يضع ماله فى مكان من البيت يعلمه أصحابه ورواده، وكل من احتاج يذهب ويأخذ منه. وقد عاش خباب حياته وهو كان واحدا ممن كان الرسول يكرمهم ويفرش لهم رداءه ويقول: «أهلا بمن أوصانى بهم ربى». وذلك فى إشارة نبوية إلى الآيات التى افتتحنا بها هذا المقال. وفى خلافة الإمام على مات خباب فوقف الإمام على قبره وقال: «رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلى فى جسمه، ولن يضيعَ الله أجرَ مَنْ أحسنَ عملا».