أخبرنا الإمام مالك: حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رجلا قبل امرأة وهو صائم، فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرتها أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم . فرجعت إليه فأخبرته بذلك فزاده ذلك شرا، فقال: إنا لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: ألا أخبرتها أنى أفعل ذلك؟ قالت: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا، وقال: إنا لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله إنى لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده. هذه الواقعة من بين وقائع أخرى ذكرت فى باب القبلة للصائم بكتب الصحاح، البخارى، ومسلم، وابن داود وموطأ الإمام مالك، وهى فى مجملها تشير إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقبل زوجاته نهار رمضان وهو صائم، والواقعة حسب رواية الإمام مالك تثير عدة مخاوف أبداها الرجل الذى كان يرسل زوجته إلى بيت أم سلمة، منها أن القبلة رخصها الله عز وجل لنبيه فقط، أو أن الرسول بحكم عصمته يستطيع أن يتحكم فى نفسه، هذه المخاوف لم تكن حبيسة هذا الرجل فقط، بل إنها شغلت عديدا من الصحابة والتابعين والفقهاء، بعضهم قال: «لا بأس منها للصائم إذا أمن على نفسه الجماع مثل الشيوخ، وتكره إذا لم يأمن على نفسه كالشبان»، وهذا هو مذهب أبى حنيفة والشافعى والثورى والأوزاعى وحكاه الخطابى عن مالك، وفريق آخر أكد كراهتها مطلقا، من هؤلاء ذهب مالك فى المشهور عنه، والفريق الثالث أباحها مطلقا، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وداود. ومنهم من أباحها فى النفل ومنعها فى الفرض، ومنهم من منعها مطلقا وذهب إليه طائفة من التابعين، فالأقوال خمسة (تفصيلها فى عمدة القارى، 6 ص11). فقد رخص عمر بن الخطاب وأبو هريرة وعائشة فيها وقال الشافعى: «لا بأس بها إذا لم تحرك القبلة شهوته. وقال ابن عباس: يكره ذلك للشبان ويرخص فيه للشيوخ». والثابت مما وصلنا من آثار أن الرسول أباحها، وكان يقبل زوجاته فى نهار رمضان، وكان يقر بهذا لمن يسأله، كما أن زوجاته نقلن عنه أنه كان يقبلهن، وقد فند ابن عبد البر فى «التمهيد»، وابن حزم فى «المحلى»، مخاوف البعض من القبلة فى الصيام، وانتهيا إلى أنها مثل المضمضة، حسب تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، لا تبطل الصيام، ولأهمية هذه المسألة، ننشر معظم ما جاء فى القبلة نهار رمضان، وقد اعتمدنا فى جمعها على كتب الصحاح، وبعض كتب الشراح والأخبار، مثل: «شرح معانى الآثار» للطحاوى الحنفى، و«التمهيد» لابن عبد البر، و«المحلى» لابن حزم. أرأيت لو تمضمضت عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: «هششت يوما فقبلت وأنا صائم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فعلت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ فقلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيم؟». عن يحيى بن أبى كثير قال: «أخبرنى أبوسلمة بن عبد الرحمن عن زينب بنت أبى سلمة عن أم سلمة رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم». عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت: «قبلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم». عن عبد الله بن فروخ، قال: «أتت أم سلمة امرأة فقالت: إن زوجى يقبلنى، وأنا صائمة، فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلنى وهو صائم وأنا صائمة». أخبرنى ابن أبى الزناد قال: «حدثنى أبى أن عليًّا بن الحسين أخبره عن عائشة رضى الله عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم». حدثنا إسماعيل بن يحيى المزنى، قال: «ثنا محمد بن إدريس الشافعى، قال: ثنا سفيان، قال: قلت لعبد الرحمن بن القاسم أحدثك أبوك عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم؟ قال: فطأطأ، أى خفض رأسه، واستحيا قليلا، وسكت، ثم قال نعم». كان يقبلنى عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: «جمع لى أبى أهلى فى رمضان فأدخلهم علىّ فدخلت علىّ عائشة رضى الله عنها، فسألتها عن القبلة يعنى للصائم، فقالت ليس بذلك بأس، قد كان من هو خير الناس يقبل». عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن عبيد الله بن معمر، عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: «أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يقبلنى فقلت: إنى صائمة فقال: وأنا صائم فقبلنى». عن أبى إسحاق الهمدانى، عن الأسود، عن عائشة رضى الله عنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتنع من وجوهنا وهو صائم». أكان يباشر عن الأسود قال: «انطلقت أنا وعبد الله بن مسعود، إلى عائشة رضى الله عنها نسألها عن المباشرة، ثم خرجنا ولم نسألها. فرجعنا فقلنا: يا أم المؤمنين أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم. قالت: نعم وكان أملككم لأربه». فسؤال عبد الله عائشة رضى الله عنها عن هذا دليل على أنه لم يكن عنده فى ذلك شىء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أخبرته به عائشة رضى الله عنها عنه. فدل ذلك على أن ما روى عنه مما قد وافق ذلك كان متأخرا عما روى عنه مما خالف ذلك. عن الأسود ومسروق قالا: «سألنا عائشة رضى الله عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر (يلمس) وهو صائم؟ فقالت نعم، ولكنه كان أملك لأربه منكما أو لأمره». عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة رضى الله عنها قالت: «ربما قبلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وباشرنى وهو صائم، وأما أنتم فلا بأس به للشيخ الكبير الضعيف». عن زياد، عن عمرو بن ميمون، عن عائشة رضى الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلنى وأنا صائمة». حدثنا يونس، قال: «أن ابن وهب، أن مالكا، حدثه عن أبى النضر، أن عائشة بنت طلحة، أخبرته أنها كانت عند عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم فدخل عليها زوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر وهو صائم، فقالت له عائشة رضى الله عنها ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم. فقالت له عائشة رضى الله عنها: نعم». عن أبى مرة، مولى عقيل عن حكيم بن عقال، أنه قال: «سألت عائشة رضى الله عنها ما يحرم على من امرأتى وأنا صائم؟ قالت فرجها». فهذه عائشة رضى الله عنها تقول فى ما يحرم على الصائم من امرأته وما يحل له منها ما قد ذكرنا، فدل ذلك على أن القبلة كانت مباحة عندها للصائم الذى يأمن على نفسه ومكروهة لغيره، ليس لأنها حرام عليه، ولكن لأنه لا يأمن إذا فعلها من أن تغلبه شهوته حتى يقع فيما يحرم عليه. سئلوا عن القبلة حدثنى الأوزاعى قال: «حدثنى يحيى بن أبى كثير عن سالم الدوسى عن سعد بن أبى وقاص وسأله رجل: أتباشر وأنت صائم؟ فقال: نعم». عن عطاء بن يسار، أن عبد الله بن عباس، سئل عن القبلة، للصائم فرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب. عن أبى حيان التيمى عن أبيه قال: «سأل عمر بن الخطاب رضى الله عنه على بن أبى طالب رضى الله عنه عن قبلة الصائم، فقال على: يتقى الله ولا يعود. فقال عمر: إن كانت هذه لقريبة من هذه»، فقول على: «يتقى الله ولا يعود» يحتمل ولا يعود لها ثانية. أى لأنها مكروهة له من أجل صومه، ويحتمل ولا يعود أى يقبل مرة بعد مرة، فيكثر ذلك منه فيتحرك له شهوته فيخاف عليه من ذلك مواقعة ما حرم الله عليه. وقول عمر «هذه قريبة من هذه»، أى أن هذه التى كرهتها له قريبة من التى أبحتها له، أو أن هذه التى أبحتها له قريبة من التى كرهتها له، فلا دلالة فى هذا الحديث، ولكن الدلالات فى ما قد تقدمه مما قد ذكرناه قبله. الفقهاء على أى حال نخلص إلى اختلاف الفقهاء حول حكم القبلة نهار رمضان، بعضهم أباح القبلة بشكل مطلق، ومنهم: الشعبى، والحسن البصرى، وعكرمة، وعائشة، وابن عباس، وأبوسلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن جبير، وأم سلمة، ورواية للإمام على بن أبى طالب، وأم سلمة، وأبو هريرة، وأبى سعيد الخدرى. وبعضهم رأى أنها تبطل الصوم، وعلى من يُقبِّل إعادة اليوم، ومن هؤلاء: محمد بن الحنفية، وشريح، وأبى قلابة، ومسروق ابن الأجدع، وعبد الله بن شبرمة، وابن مسعود رضى الله عنه. وفريق ثالث يرى كراهيتها مطلقا، منهم ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وابنه، والإمام على بن أبى طالب، والإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعى. الإمام الشافعى قال: القبلة لو كانت تنقض صومه لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص ابن عباس وغيره فيها، كما لا يُرخِّصون فى ما يفطر. وقال ابن حزم الأندلسى: القبلة والمباشرة للرجل مع امرأته وأمته المباحة له؛ فهما سنة حسنة نستحبها للصائم، شابا كان أو كهلا أو شيخا.