يمتلئ تراثنا المصرى منذ عهد الفراعنة بقيمة الضمير وقيمة العطاء، وكانت الإلهة «معات» صوت الخير والضمير يعبدها قدامى المصريين، بل أنصف مؤرخو الإسلام، كابن كثير وأبى الفداء، جبارا كفرعون موسى، أنه كان يرفض الرشى ويشعر بالناس، فيروى الأخير أنه حين حفر الترع والمصارف لأهل القرى حصل وزيره هامان على رشوة من أهل هذه القرى فرده فرعون وأنّبه وعابه على ذلك، وردّ مال الناس إلى الناس شاعرا بهم وبمسؤوليته! كذلك يحتوى تراثها المسيحى والإسلامى على كل معالم الخير، أحبوا الناس والمحبة والعطاء والنفع للناس، مبادئ جميلة لو ترجمت قيما وسلوكا لتقدمنا بها، لكن يفسدها الطامعون والكارهون المتاجرون بالسلطة والدين فى كل زمن! وتفسدها الأنانية والذاتية التى تفسد كل جميل وتتاجر بمشاعر الناس دون أن تشعر بالناس.. لكن يبقى الخير فى هذه البلاد مستورا وظاهرا ما بقيت. ظاهرة جميلة عاطرة انتشرت فى شوارع القاهرة فى الأسابيع الأخيرة تحمل عبق هذا التراث، بتوقيع «فاعل خير» هذه الكلمة الجميلة التى لا تكشف هوية صاحبها، وكنا نسمع عنها فى بلاغات المجاهيل فى السينما المصرية، ولكنها هذه المرة تحمل معناها الأصلى فى ستر فاعل الخيرات، وعدم المفاخرة بها، بل زادت جمالا حيث تحولت دعوة عامة لفعل الخير، حتى نكون جميعا «فاعل خير». ابتكر أصحابها هذه المرة أدوات جديدة لفعل الخير، وإن كانت قديمة ووجدت دائما، فظهرت فى الشوارع شماعات تعلق عليها الملابس المستعملة لصالح الفقراء، وبالفعل بدأت الناس فى المشاركة بوضع الفائض من ملابسها للمحتاجين. كما ترك ثلاجة بها بعض المأكولات والمشروبات فى الشارع، وتوالت الناس فى وضع ما يزيد على حاجتهم من المأكولات. وحسب جريدة «الشروق» فى 15 يونيو الجارى فقد «أضفى فاعل الخير» بصمته الخاصة على الشارع المصرى بتوفير خدمات عامة من مطالع وسلالم عند الأرصفة المرتفعة لسهولة تحرك كبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة، ولافتات عند المطبات الصناعية لتجنب الحوادث. كما لم يغفل «فاعل الخير» الأطفال، حيث وضع بعض الرفوف فى الأماكن العامة عليها كتب دراسية من أعوام دراسية مضت ليستفيد منها طلاب آخرون، وعلق إطارات السيارات بالحدائق العامة كأرجوحة لترفيه الأطفال. نتمنى أن يتحول فاعل الخير إلى مشروع قومى ووطنى عام يشارك فيه الجميع، وتتبناه الدولة والحكومة، فيغرس كل منا أمام منزله شجرة ويضع أمام بيته سلة للزبالة، ويحافظ على نظافة مكانه، هذا هو الدين والتدين، ونداء الروح الذى يسهم فى عملية التنمية والتقدم.. هذا هو الدين الذى نحتاج إليه. يتحول من غير لافتات، شخصية أو جماعية، لمشروع نتبناه جميعا فى تنظيف وتجميل وتبييض وجه هذا الوطن، والقيام بما نحتاج إليه معا، أن نشعر الفقراء بالغنى، والمريض بالعافية، والطالب بإتاحة العلم، أن نسارع لمساعدة بعضنا بعضا، وأن يحمل بعضنا بعضا بلا افتخار ولا رغبة فى اشتهار ولا توجيه سياسى أو أيديولوجى! والصوم تلك العبادة التى فرضها الله على المسلمين، كما فرضت على من قبلهم، هى تمرد على العادات، وترويض للذات، فمتى نتمرد على الطمع وعلى الحقد وعلى التمييز وعلى الكراهية، ويبقى كل منا مثالا مجهولا أو معلوما اسمه فاعل خير.. تحية لأصحاب هذه الفكرة المجهولين المعروفين عند الله والناس!