منذ أن بدأ نزار قبانى يكتب الشعر وينشره منذ أربعينيات القرن الماضى وهو محل شدّ وجذب وهجوم وتعاطف ورجم فى ذات الوقت، قصائده التى كان ينشرها فى مجلة «الأديب» اللبنانية، ثم بعدها مجلة «الآداب»، أحدثت ضجيجا وصخبا ومناقشات حادة جدا، وحوارات مثمرة بينه وبين النقاد، وأقلقت طريقته فى التعبير كثيرا من المحافظين، ولم تكن هذه الحوارات والمناقشات وأشكال الشد والجذب المترامية فى صحف ومجلات الوطن العربى إلا نفخا فى نار نزار قبانى. وكانت علاقة نزار بمصر وبمثقفيها وكتابها وطيدة منذ أن كان يراسل الناقد الكبير أنور المعداوى فى مجلة «الرسالة»، لينشر له قصائده الأولى فى المجلة، وبعدها صار نزار نجما شعريا فى كل المؤتمرات والمحافل الثقافية والصحف والمجلات والإذاعات العربية. ولم يستمد نزار أهميته ونجوميته من شعريته المتفوقة والخاصة فحسب، بل إنه استمد تلك النجومية من اقتران شعره بالمرأة، وكتب عنه كثيرون واصفين إياه بأنه شاعر المرأة، رغم تحفظ كثيرين -كذلك- على هذا الوصف، وتفسيره والتساؤل حوله، فإذا كان نزار شاعرا للمرأة فبأى معنى يكون شاعرها وهو يمزقها فى قصائده ويجعل منها مادة لمغامراته العاطفية والجسدية؟! تساؤلات كثيرة طرحت على شعر نزار قبانى، هل هو الموازى الشعرى للمفكر والناثر قاسم أمين -مثلا- فى تحرير المرأة؟ بالطبع لا، فالشاعر الذى يكتب ديوانا عنوانه «طفولة نهد»، ويعبث بكلماته طوال قصائده وعرضها فى مفردات جسدها، ويطرز شعره كله بتأنيب المرأة، ورغم أنه يقول لها ثورى وانتفضى وتمردى على الأوضاع، فهو نفسه يطرحها أرضا ويحولها إلى أرض خصبة لنزواته. هذه التساؤلات شذرات من سيل لم يتوقف حول نزار قبانى، وهناك معارك كثيرة أحاطت بالشاعر على مدى حياته كلها التى عاشها شاعرا وناثرا وجوّالا فى حقول الحرية بطريقته الخاصة وهو يقول عن نفسه إنه منحاز لقضيته، ولا بد أن يكون طرفا غير محايد: «فأنا جزء من القضية التى كلفت النظر فيها، فكيف ألبس ثوب القاضى وثوب المتهم فى آن واحد؟ كيف أفصل فى معركة أنا بعض وهجها ودخانها؟». يكتب نزار قبانى هذا الكلام فى كتابه «الشعر.. قنديل أخضر»، بعد أن ينشر فى مقدمة الكتاب سلسلة قصائد تعبر عن شبق واضح، مثلما فى قصيدته عن الراقصة الإسبانية: «الراقصة الإسبانية تقول بأصابعها كلّ شىء.. والرقص الإسبانى هو الرقص الوحيد الذى يستحيل فيه الإصبع إلى فم.. النداء الساخن.. والمواعيد العطشى والرضا والغضب والشهوة والتمنى كل هذا يقال بشهقة إصبع بنقرة إصبع..» يتضح نزوع نزار قبانى إلى تحويل المرأة والفن إلى مجموعة شبقيات متناثرة، وهذا ما طرحه فى كل ما كتبه عن المرأة من شعر طوال مسيرته الطويلة والعريضة، واشتبكت حول تجربته أقلام كبيرة وعديدة، ومن بين هذه الأقلام ما كتبته الكاتبة والمفكرة الكبيرة والأديبة الدكتورة نوال السعداوى، التى كانت قد أصدرت عدة كتب ذات أهمية قصوى، وأحدثت أثرا كبيرا فى قضية المرأة، فكتبت فى العدد الصادر من مجلة «صباح الخير» بتاريخ 14 يونيو 1973 احتجاجا صارخا على شعر نزار قبانى، وطريقته الاستعراضية فى الدفاع عنها، فقالت تحت عنوان «الفاعل والمفعول به!»: «ها هو الرجل الشرقى يبرز عضلاته الذكورية فى حوارنا العميق عن الحب، إنه لا يشترك معنا فى الحوار، ولكنه يضع نفسه فوقه، ويقول إنه يرفضه، ثم يقتحمه اقتحام فرسان القرن التاسع عشر فى ثياب القرن العشرين، ويكتب نزار قبانى رأيه فى الحب وكأنه يأتى بجديد، وكأننا لم نكتب من قبل عن الحب المريض السائد ليس فى مجتمعاتنا الشرقية فحسب وإنما فى المجتمعات الغربية أيضا. إن معنى العيب والحرام والعار كلها تلتصق بالمرأة وحدها فى أكثر المجتمعات تقدما، لكن نزار قبانى كذكر شرقى ينكر علينا ما كتبناه، ينكر صيحة المرأة العربية فى كتب جديدة هزّت المجتمعات العربية فى السنوات الأخيرة. لقد سبقت المرأة العربية فى كتاباتها وأفكارها نزار قبانى، وهى البادئة بتحرير نفسها من الأفكار المتخلفة عن الأنثى والعار والحب والجنس، ولكن ذلك يخدش رجولة نزار قبانى. إنه دائما يريد أن يكون هو البادئ، أن يكون هو المقتحم، أن يكون هو الفاعل، وتظل المرأة دائما كما كانت المفعول به، فالرجل هو الذى يضع القيود والرجل هو الذى ينزع القيود». لا تثور نوال السعداوى هنا على نزار قبانى وشعره وطريقته وأفكاره من فراغ، بل إنها قادت حملة فكرية وثقافية وثورية كبيرة ضد النزعة الذكورية فى المجتمع العربى، هذه النزعة التى تعتبر أن الرجل هو الأول وهو الآخر، وهو الآمر الناهى، وهو الأصل والمرأة هى الفرع، ويعتبر كتابها العبقرى «الأنثى هى الأصل» هو الرد الأهم والأحدّ والأبقى على كل العضلات البارزة والوهمية لهذه الذكورية العربية التى تستمد قوتها من أشكال التخلف الضاربة فى جذور وثقافة المجتمع، وكان كتابها «المرأة والجنس» كذلك بمثابة ضربة أخرى فى هذا المجال، ومن المؤسف أن كتابات نوال السعداوى التى تجد احتفالا مهيبا خارج مجتمعاتنا لا تجد سوى الاستبعاد، رغم أنها لا بد أن تكون ألف باء المواد التى يتم إدراجها فى التدريس بالجامعات. نوال السعداوى قيمة وقامة كبيرة، ولا جدوى من استبعاد كتبها وأفكارها، لأن هذه الكتب وتلك الأفكار تجد طريقها الطبيعى إلى القرّاء المعنيين، بعيدا عن مكائد السلطة والسلطان الذى يمكر ويكيد دون أن يعرف أنه لا يفعل سوى إعطاء أهمية أخرى لكتابات نوال السعداوى الضرورية.