أعادت دار «سويل» الفرنسية للنشر، في أبريل الماضي، طباعة النسخة الفرنسية من كتاب «فشل الإسلام السياسي»، للباحث في (المركز الفرنسي الدولي للعلوم والأبحاث) و الأستاذ في (المعهد الأوروبي) بإيطاليا الكاتب و الصحفي الفرنسي «أوليفار روي»، وهو عبارة عن مقالات مجمّعة صدر عن دار النشر عام 1992، وأعاد روي صياغته باللغة الإنجليزية عام 1994، واستشرف خلال هذه المقالات مصير الشرق الأوسط تحت وطأة الإسلاميين، حيث تناولت أطروحته (صعود الإسلاميين للحكم؛ انتحار لمشروع الخلافة)، الأسباب والتأثيرات والنتائج التي أفرزها صعود سهم الساسة الإسلاميين خلال العقدين الماضيين، وحركة الشحن المعنوي والحشد الشعبي الغير معلن التي انهمر منها شلال ما يسمى ب «الربيع العربي»، الذي حطم الأصنام القديمة واستبدلها بأصنام جديدة وسمّاها بغير اسمها.... يعود روي، اليوم الأربعاء، ليكتب مقالا على صفحات «كوريير انترناسيونال» الفرنسية، يحاول فيه رصد التطورات التي طرأت على تنظيم «داعش» الإرهابي خلال عام على سقوط «الموصل» ثاني المدن العراقية، ومحاولا كشف أسباب قوة هذا التنظيم «السرطاني». شهد عام 2006 ارهاصات ولادة ما كان يسمى ب «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وكان الاستيلاء على مدينة الموصل هو «نقطة انطلاق» هذه الدولة البربرية، والذي أعقبه مباشرةً إعلان الجهادي «أبو بكر البغدادي» إنشاء الخلافة الجديدة من مكان ما بين سورياوالعراق، مما أدى منطقيًا إلى تغيير اسمها إلى «الدولة الإسلامية»، الأمر الذي دفع العديد من السياسيين والمحللين إلى التنبؤ في باديء الأمر بزوال هذه الدولة المزعومة، مع أول غارة جوية مثلا.. إلا أن التنظيم أثبت مما لا يدع مجالا للشك طيلة عام كامل أنه قادر على تطوير قدراته و استقلاله السياسي والمالي، ما يجعله «ظاهرة محيّرة» لفتت أنظار الجميع لهذا الكيان السرطاني الذي يقوى يوما بعد يوم. وعلى الرغم من هزيمته في «كوباني» على يد البشمركة مدعومين من التحالف الدولي، إلا أنه لم تزل له «اليد العليا» في المنطقة، فداعش يسيطر الآن على 300 ألف كيلو متر مربع ما بين العراقوسوريا، بخلاف سيطرته على 8 إلى 10 ملايين شخص.. كما امتدت أذرعه الأخطبوطية إلى سرت في ليبيا و سيناء في مصر ورسخ أقدامه في القارة السمراء، بجانب الولاءات المتلاحقة للتنظيمات الصغيرة مثل أنصار بيت المقدس وبوكو حرام. أقوى التنظيمات الجهادية في العالم أصبح لاسم التنظيم شهرة كبيرة في جميع الأوساط العربية والغربية، كما له سمتًا ووقعا مرعبا في صدور وعيون متابعي الأخبار حول العالم، الذين عرفوا حجمه الحقيقي مؤخرا بعد تنفيذه ضربات كبرى في فرنسا واليمن والسعودية وجزيره العرب و الولاياتالمتحدةالأمريكية، من خلال ذراعه الإعلامي المثير للشك، الذي يوثق جرائمه ليبثها بشكل هوليودي غاية في الإتقان لنشر الذعر في أذهان أعدائه. ف«داعش»..لم يعد أقوى تنظيم جهادي في العالم فحسب، إنما أصبح لاعبا إقليميا ودوليا قادرا على إملاء إرادته السياسية على الجميع. ونستطيع أن نرجع هذا «التغوّل» الذي لحق بالتنظيم لسببين رئيسيين وهما: «قدرة داعش على التكيف مع الطبيعة الجغرافية والديموغرافية للمنطقة وقدرتها على تجنيد الجهاديين»، و «ضعف استراتيجية معارضيه واستخدامها الطرق التقليدية للقضاء عليه». ال «هيدرا» رباعية الرأس شبه أوليفار روي الكيان الداعشي بوحش الهيدرا الأسطوري، الذي تنبت له عشرات الرؤوس كلما قطعت له رأس واحدة، ولكن هذه المرة فهو «هيدرا» ذو 4 رؤوس، و دلل الكاتب على ذلك بأن التنظيم يقوي جبهاته ويجدد دماءه بشكل مستمر، من خلال تجنيد عشرات الآلاف من شباب الخليج وشمال أفريقيا وأوروبا والولاياتالمتحدة والصين واستراليا وروسيا، فهو قادر على جذب هؤلاء الشباب من خلال توجيه خطاب هوليوودي آسر، يسيطر على عقول هؤلاء الشباب، مرة بالترغيب ومرات بالترهيب. تتجلى هذه المغريات في صور شتى، بدغدغة مشاعر الخوف وحب السلطة والرغبة في التضحية والاستشهاد والنقاء والمثالية، وأيضا الترغيب في القتال تحت لوائه نظير مرتب مغري وزواج سهل وسكن متوفر. تلمع أعين الشباب عند رؤية هذه المغريات تغمر صفحات وحسابات قادة التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التابعة للتنظيم كقناة الفرقان وصحيفة الحياة، فيستسلمون بسهولة لهذا الرامي ويقفون وراءه خشية أن يصيبهم بسهامه، وطمعا أيضا في ذهبه المنثور. كما يعد التنظيم أكثر قدرة على الانتشار والظهور على شبكات الإنترنت، من سلفه القريب «القاعدة» الذي رضي بتواجده محليا أو ربما إقليميا، نجد ذلك واضحا جدا في مقالات الباحث في «معهد برلين للسياسة الإعلامية والتواصلية» السياسي المصري الألماني «عبد العظيم الدفراوي» الذي نشر بعضها في صحيفة «لوريان لوجور» اللبنانية الفرانكفونية، وجمعت في كتابه «تنظيم القاعدة في الصورة» حيث يقول بأن داعش الكيان الأكبر قدرة على حشد الأنصار في العالم، ولا يقارن بها أي تنظيم آخر، حتى التنظيمات المعادية ك «بيجيدا» الألمانية لا تستطيع الحشد سوى في المظاهرات والوقفات، ولا تستطيع مطلقا جمع أنصار لديهم نفس القدرة على القتال والرغبة في التضحية. تدخل كل هذه القدرات في تكوين رؤوس وحش الهيدرا الداعشي الذي أثبت قدرته على التلوّي والتلون على الصعيدين الدولي والمحلي ليرسخ أقدامه في أرض المنطقة ويطلق رؤوسه المتعددة ليرى ساحة المعركة جيدا. كيان سنّي مستقل صار من الصعب إغفال قدر هذه الدولة الوليدة، فهي تعمل على استقلاليتها عن الحكومات العربية والإسلامية المحيطة، لتنشأ كيانا سنيّا مستقلا.. دولة مكتملة لها عاصمة سياسية (الرقة) وأخرى اقتصادية (الموصل)، دولة بها حكومة وشرطة وإدارة و عملة مستقلة ونظام قضائي ونظام صحي، إلى جانب جيش جرّار من المجاهدين، دولة تجبي الضرائب وتعمل على اكتفائها الذاتي من الانتاج الزراعي والتجاري، إضافة إلى نهبها بنك الموصل و كنوز وآثار معابد العراق القديمة. كما تفرض سيطرتها على معظم المعابر الحدودية بين العراق و سوريا، لتصبح الرقعة الصحراوية الشاسعة ما بين الأنبار العراقية والرقة السورية (منطقة داعشية). وما يلفت الانتباه حقا هو طبيعة تصرف التنظيم وكأنه دولة مستقلة وليس منظمة إرهابية كما يصنفها أعداؤها، الذين لا تتورع في الحصول على غنائمهم، بداية من أسلحة الأمريكان التي تغرق بها العراق حتى السلاح الروسي المنتشر في سوريا. عمل التنظيم خلال ال 10 سنوات الأخيرة على إيقاع بعض قادة الجيش أمريكي في شرَك الخصومة مع ما تبقى من قيادات حزب البعث العراقي، خصوصا بعد إعدام زعيمه الرئيس صدام حسين، تمهيدا لانضمام دواعش السنة إلى البعثيين للضغط على شيعة العراق. وعد «برومثيوس» يرى الكاتب الفرنسي أن ما يعد به التنظيم لأنصاره نظير تضحيتهم بأنفسهم، كالوعود التي تلقاها الحكيم الأسطوري «برومثيوس»، لقاء صلبه وتضحيته بنفسه، فكما تعد «داعش» مقاتليها بخلافة تملأ الأرض ونعيم ينتظرهم بعد استشهادهم في سبيل ذلك، تلقى الأسطورة الإغريقية برومثيوس وعدا بأن يؤتى العلم والحكمة واستشراف المستقبل..... وعلى الرغم من الرؤية الحادة والفكر الأصولي المتشدد للسلفية الجهادية التي تمخضت عن هذا الكيان الجديد، إلا أنه لازال قادرا على حشد جيوشه وصقل أسلحته. هل «داعش» قوية كما تبدو؟ لا نستطيع الفصل في هذا الأمر، ولن تجد له إجابة شافية حاليا، لأن هناك العديد من المؤثرات التي تعمل على تشويش الصورة الكاملة لهذا التحدي، فقد يبدو أن هناك الكثير من المبالغة في توصيف التنظيم يؤدي أحيانا إلى إحباط بعض الحكومات والشعوب، هذا ماحولت الكاتبة سارة برايك بمشاركة الصحفي بيتر هارلينج تفسيره في سلسلة مقالاتهم المنشورة على موقع «لوريان XXI»، تحت عنوان «تنظيم الدولة.. الوجه الآخر للمرآه». فهو ليس هذا الوحش الكاسر الذي يلتهم أبناء سوريا طوال الوقت ويحرق الكساسبة الأردني وينهش رؤوس 21 قبطي على الشاطيء الليبي. وعلى خلاف «القاعدة»، لا يرمي التنظيم نفسه في معارك جانبية غير مناسبة لموقفه وقوته وتحركاته وخطته، فهو يبعد نفسه قدر الإمكان عن مواجهة الشيعة وجها لوجه ويترك هذه الثغرة لجبهات أخرى، ويستفيد قدر الإمكان من السياقات السياسية الناتجة عن خلخلة تلك الأوضاع ليوطد حكمه في العراقوسوريا، كما يعمل أيضا على التودد لأهل الموصل لأنه يعرف قيمة المدينة كبيدق حقيقي على رقعة الشطرنج ذات المربعات الحمراء الدامية. يتغذى التنظيم على ضعف خصومه، فبعض الجهات الهشة استراتيجيا التي تحاربه لها فوائد كبيرة تعود عليه بالنفع، حيث يتوقع لها الزوال السريع. فلا يختلف حال «سوريا الأسد» المزري الذي يسعى جاهدا في تبرير موقفه أمام المحافل الدولية، عن حال تركيا التي أصبحت معبرا للجهاديين، عن حال الأكراد الذين لم يغنموا شيئا في مواجهته في إقليم كوباني السوري، عن حال إيران والسعودية اللذان يتصارعا على الحليف الأمريكي.