بعد نحو سبعة عقود تقريبًا من ثورة المصريين على الاستعمار الخارجى، وثورتين فى مواجهة الاستعمار الداخلى، يلحظ المرء أن هناك خللا بنيويا ما فى جسد وعقلية المصريين، ولهذا لا يزال النسيج الاجتماعى المصرى هشا، غير قادر على مواجهة فيروسات التشظى الأيديولوجى أو العقائدى، عطفا على اهتراء الأرضية الحزبية والسياسية، وزوال ملامحها ودورها الفعال فى حياة المصريين، وفى حين تبقى الطامة الكبرى متمثلة فى الإعلام الذى بات فى غالبه أداة من أدوات الشر والكراهية المجانية، وعليه يتساءل المرء: «أى مستقبل لمجتمع بهذه الصورة؟». لعل المثير أننا لسنا بدعة بين الأمم، فكثير منها عاش ما عشناه، وخبر من الألم ما ذقناه، غير أنه قُدر لهم أن يتجاوزوا المحنة إلى النعمة، وعرفوا كيف يحولون الليمون اللاذع إلى شراب حلو المذاق على حد وصف الكاتب الأمريكى المبدع ديل كارينجى. من بين تلك الشعوب يأتى اليابانيون ونموذجهم الحضارى المهم كمثال ناصع لقوة الإرادة، وصفاء الروح، وقدح زناد العقل... هل بدأت نهضة اليابان الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية بالفعل أم أن الأمر على خلاف ذلك؟ الشاهد أن الانطلاقة الحقيقية لليابان واليابانيين بدأت فى عام 1868م عندما صدر ما يعرف ب«العهد الميجى» فى عهد الإمبراطور اليابانى: «موتسو- هيتو». كان هذا العهد هو البداية الحقيقية لإرساء قواعد نهضة اليابان الحديثة، ما أهم فقرة فى هذا العهد؟ يضيق المسطح المتاح للكتابة عن التفصيل، غير أنه باختصار غير مخل يمكننا القول، إن الفقرة الخامسة من العهد التى تتناول شأن التعليم كانت هى ركيزة يابان «شينزو آبى» التى نراها اليوم، تقول الفقرة الخامسة: «سوف يجرى العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم، وعلى هذا النحو سوف تترسخ الإمبراطورية على أسس متينة». المعارف إذن، هى الطريق الرئيسى للتنوير، والانتصار على الذات، ومصانع المعارف هى المؤسسات التعليمية، والمنتج النهائى لها «الإنسان العارف»، وفى الصوفية يلقبون شيخ الطريقة ب«العارف بالله» كأعلى درجات الإدراك البشرى، لكن كيف يمكن جمع تلك المعارف وعبر أى وسائط يمكن الاستفادة بها ومن خلالها؟ فى بقية فقرات «العهد الميجى»، نجد إشارة إلى ضرورة دعوة جمعية عامة كبيرة العدد للاجتماع، وأن تتخذ كل الأمور عن طريق المناقشة الجماهيرية العامة، مما يعنى الحوار العلنى الشفاف تجاه تأصيل المعرفة، ومن ثم التعليم فى المجتمع اليابانى، وهذه هى البداية السديدة للديمقراطية الحقيقية. يلى ذلك شأن آخر، وهو أن يكون لهؤلاء الذين هم فى مستوى أعلى وأولئك الذين هم فى مستوى أدنى الحق نفسه فى إبداء الرأى وأن تُدار الحكومة فى قوة وحسم... هل يعنى هذا شيئا آخر سوى المساواة بين أبناء الوطن، دون معايرة أو مقارعة، ودون طبقية تجلب الخصامات وتُولد الكراهات، كما رأينا فى أزمة وزير العدل الأخيرة وما رشح عنها؟ أما درة تاج «العهد الميجى» فتتجلى فى الإشارة إلى أن عامة الشعب لا يقلون عن المسؤولين المدنيين أو العسكريين، ومن ثم يسمح لكل منهم بأن يحقق أمانيه حتى لا يكون هناك شعور بعدم القناعة بالوطن... أى ترجمة لفكر المواطنة، وسيادة روح الديمقراطية، تسمو فوق هذه الكلمات، والتى كانت ولا تزال نبراسا لليابانيين. إحدى نقاط «العهد الميجى» المثيرة كانت تطالب بالتخلى عن كل التقاليد والعادات الغريبة التى كانت سائدة، وأن تحل محلها مبادئ العدالة والمساواة، كما تقتضيها الفطرة الإنسانية، وللقارئ أن يلاحظ الحديث عن الفطرة فى مجتمع من غير مجتمعات الموحدين الإبراهيميين، وله أن يستوعب لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ ذلك السؤال الذى طرحه الأمير شكيب أرسلان قبل نحو مئة عام، ولا نزال نبحث له عن جواب حتى ثورات وفورات الربيع العربى.