أن تكون موزعا للأسبرين فى بلد لا ينقصه الضجيج فهذا شىء يمنحك الكثير من الربح والمديح. لكن الحرفنة والصياعة أن تنشر الصداع بنفسك فى الخفاء ثم تبيع أسبرينك فى العلن لتزداد أرباحك ويتضاعف مادحوك! هذه اللعبة الخبيثة لخصها والد الشعراء فؤاد حداد واصفًا العدو الصهيونى بقصيدة كان مطلعها: بيبيع الأزعرينة ويبيع الأسبرينة! لكن الحقيقة أن ذلك الوصف يمتد ليشمل ما تصنعه الأنظمة الشمولية من أزمات تتيح لها الفرصة لكى تتفضل وتطرح علاجا وقتيا لأعراض الكوارث التى تحيق بها لتحسين صورتها أمام العالم وأمام شعوبها. يتقدم السلفيون بطلب إلى الأزهر لتكوين هيئة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتعلو الأصوات بأنهم سيعصفون بالحريات، وما هى إلا أيام ويأتى رمضان، ومن المتوقع أن يعلن أحد وكلاء الأزهر، كعادتهم، أنه لا يمانع من قيام هيئة كتلك تهدف إلى الحفاظ على قيم المجتمع. خصوصًا أننا فى شهر الصوم الذى لا يصح فيه أن يجهر العصاة والملحدون بإفطارهم فى مرحلة حرجة تنتشر فيها فيديوهات تحرض على الرذيلة من نوع سيب إيدى! بعدها ربما تترك الشرطة الحبل على الغارب للمتطرفين فى مدينة نائية تحتقن بالطائفية لينتهى الأمر بحادثة يتعرض فيها سلفيون لفتى يصطحب فتاة فيوسعونه ضربا أو ربما يقتلونه ليظهر الرئيس ويعلن بهدوء وحزم أنه لن يسمح لأحد بأن يروع المصريين وينتزع منهم حرياتهم التى يكفلها لهم الدستور. سنسمع هذا ونحمد الله على سرعة رد الفعل. رغم أن شرطة الدولة نفسها تنتهك هذا الدستور ليل نهار، وتقوم بالعصف بحريات المواطنين داخل الأقسام وخارجها! بعدها سيؤكد الرئيس بالطبع أن موقفه الحاسم من تلك التجاوزات لا يتعارض مع ضرورة التمسك بالقيم، لأن مجتمعنا محافظ ومتدين بطبعه! إذا كنت لا تصدق تجارة الأزعرينة والأسبرينة فانظر معى إلى حادثة تهجير المسيحيين الأخيرة من قرية كفر درويش والتى تزامنت مع سفر الرئيس إلى ألمانيا وانتهت بسرعة فائقة بعودتهم إلى ديارهم قبل انقضاء زيارته الخارجية وعودته إلى أرض الوطن. ليتك تسأل معى أيهما كان أسهل: أن تعيد السلطة مواطنين تم تهجيرهم من ديارهم بالفعل برضائها وتحت عينها فى جلسة عرفية شائنة مهينة حضرها مدير الأمن شخصيا؟ أم تمنع وقوع أمر هزلى كهذا من البداية؟ الأسهل بالطبع أن تمنعه، لأنها تملك كل ما يؤهلها لزجر السلفيين إن أرادت. فكلنا نعلم أنهم ليسوا دولة داخل الدولة، وأن قادتهم ينامون على حجر الأمن الوطنى ويأتمرون بأمره. لكن خنق ذلك التجاوز فى مهده كان سيمر بلا ضوضاء ويحرمها من فائدة جمة لم تكن لتتحقق إلا بنشر الصداع وبيع الأسبرين معًا. ليتك تقرأ ما نقلته صحيفة «دير شبيجل» الألمانية الواسعة الانتشار على لسان فولكر كاورد، زعيم الأغلبية البرلمانية للحزب الديمقراطى المسيحى وهو يمتدح السيسى فى لقائهما قائلاً إنه يطمئن إلى قدرته على مقاومة التجاوزات التى تحدث بحق المسيحيين المصريين ويثق بأنها لن تتكرر مرة أخرى! تصفيق حاد. عودة الاستقرار بحق إلى مصر يتطلب علاجا شافيا للصداع المزمن القاتل الذى نعانيه. باستخدام دواء يشفى المريض ولا يعالج الأعراض فقط. ألا وهو تطبيق الدستور والعدالة القانونية فى دولة مواطنة طوال الوقت، وعلى الجميع أفرادًا ومؤسسات، دون حاجة لقيام بعض الأجهزة بتنشيط مسببات الصداع من آن لآخر للقيام بتجارة الأزعرينة والأسبرينة.