كتب - محمد شرف الدين "البحث عن السيطرة المطلقة قد يُفقدك كل شيء"، ربما كان هذا ما يدور الآن بخلد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد تلقيه الضربة الأقوى في تاريخه السياسي، أمس الأحد، حيث تشير النتائج الأولية للانتخابات التركية إلى فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم ب258 مقعدًا، من أصل 550 مقعدًا بالبرلمان التركي، وهو ما يمثل نحو 41% من أصوات الناخبين، وما يعني أن حزب الرئيس في طريقه لخسارة الأغلبية البرلمانية التي انتزعها قبل 13 عامًا متحديًا دولة أتاتورك، ومستعيدًا الروح العثمانية التي كانت قد دفنت تحت تراب إسطنبول منذ عشرينيات القرن الماضي. "إن لدينا ميراثًا آل إلينا من الدولة العثمانية، إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد".. أحمد داود أوغلو، نوفمبر 2009. في 28 فبراير 1997 أصدرت قيادة القوات المسلحة التركية عدة قرارات تهدف إلى حماية "الهوية العلمانية" لتركيا، وسلمتها لرئيس الوزراء نجم الدين أربكان للتوقيع عليها، فيما سُمي بعد ذلك ب"انقلاب المذكرة العسكرية"، أو "انقلاب ما بعد الحداثة"، كما سماه الأميرال التركي "سالم درفيسوجلو". كانت أهم هذه القرارات هي: - حظر صارم للحجاب بالجامعات - إغلاق مدارس تحفيظ القرآن - إلغاء مدارس الطرق الصوفية - السيطرة على وسائل الإعلام التي تعترض على قرارات المجلس العسكري لم يجد أربكان بدًا من التوقيع على المذكرة العسكرية التي مثلت الإنقلاب الرابع في التاريخ التركي، بعد انقلابات أعوام "1960، 1971، 1982"، قبل أن يضطر رئيس الوزراء للاستقالة، ويتم حل حزبه ومنعه من ممارسة السياسة لمدة 5 سنوات، كما تم حبس عمدة إسطنبول، رجب طيب أردوغان، فيما مثل ضربة قوية ل"الإسلاميين" في تركيا الذين رأوا في أربكان و"حزب الرفاه" ذو التوجهات الإسلامية بارقة أمل بعد نحو 7 عقود من الحكم العلماني للبلاد منذ إطاحة مصطفى كمال أتاتورك بالدولة العثمانية في عام 1924، وشنه حملةً شعواء على الأفكار والمظاهر الدينية. "في تركيا، لدينا زواج بين الإسلام والديمقراطية، والطفل من هذا الزواج هو العلمانية، ولكن يمرض هذا الطفل من وقت لآخر، وتكون القوات المسلحة التركية هي الطبيب الذي يعالجه، واعتمادًا على مدى مرض هذا الطفل، نقرر الدواء الضروري للتأكد من شفائه".. الجنرال "شفيق بير" تعقيبًا على انقلاب 1997. نشأ حزب الفضيلة على يد الأعضاء السابقين بحزب الرفاه المنحل بحكم المحكمة الدستورية التركية، قبل أن يتم حله هو الآخر في 22 يونيو 2001، ولكن قبل مرور شهرين على هذا التاريخ كان أردوغان قد شكل مع عبد الله جول وعدد من أعضاء "الفضيلة" حزب العدالة والتنمية في 14 أغسطس 2001، ليكتسح الحزب الوليد الانتخابات البرلمانية في العام التالي، ويتربع على عرش السلطة في الدولة الأوراسية، هذا العرش الذي لا يبدو أنه سيسقط قريبًا، ولكن يرى الكثيرون أنه قد ضربه أمس زلزالًا قويًا. كان أردوغان يمني النفس بالاستحواذ على 360 مقعدًا بالبرلمان التركي كي يصبح بإمكانه إجراء تعديلات دستورية تمنحه صلاحيات أكبر، وتحول تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي، و ربما كان هذا "الطموح القاتل" هو ما دفع قطاع واسع من الناخبين للتصويت ضد رغبات "الرجل القوي" الساعي إلى إحكام سيطرته على البلاد. فرصة أخرى كان يمتلكها الحزب الحاكم في حال فوزه ب330 مقعدًا حيث كان بإمكانه الدعوة لاستفتاء شعبي على التعديلات الدستورية، 3 مقاعد فقط أكثر مما حصل عليه الحزب في انتخابات 2011 "327 مقعدًا" كانت ستقرب أردوغان من حلمه الرئاسي، ولكنه بدلًا من ذلك خسر نحو 69 مقعدًا من حصته السابقة، خاصةً بعدما نجح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الفوز بنحو 12% من أصوات الناخبين، ودخل البرلمان للمرة الأولى. يرى محمد كامل، الباحث في الحركات الإسلامية، أن دخول الأكراد للبرلمان مُمثلين في حزب الشعوب الديمقراطي يُعد إنجازًا لأردوغان، حيث لم يكن ذلك مسموحًا به في العهود السابقة. وحول تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية قال "كامل" إن الأمر لم يُحسم بعد، في إشارة إلى أصوات نحو 3 مليون تركي بالخارج لم يتم فرزها حتى الآن، متوقعًا أن يذهب معظمها للحزب الحاكم. ويرى الباحث أن حزب الشعوب الديمقراطي قد استحوذ على جزء كبير من الكتلة التصويتية الكردية التي كان يذهب معظمها لأردوغان وحزبه. وعن طموح العدالة والتنمية للفوز بثلثي مقاعد البرلمان وإجراء التعديلات الدستورية، قال "كامل" إن الحزب أخطأ في رفع سقف توقعاته، لافتًا إلى أن ترك أردوغان رئاسة الحزب ربما يكون قد أثر سلبًا على شعبيته. يرى بعض المراقبين أن احتجاجات ميدان تقسيم التي اندلعت ضد أردوغان في 28 مايو 2013، كانت نقطة مفصلية في تاريخه السياسي، حيث اشتعلت الاحتجاجات ردًا على اعتداء الشرطة التركية على ناشطين بيئيين رفضوا إزالة منتزه جيزي بالعاصمة إسطنبول، وإعادة بناء ثكنة عثمانية في موقعه. أظهر تعامل أردوغان مع أزمة جيزي أنه ربما يتوجه أكثر نحو القمع والاستبداد ومحاولة تكريس حكم الفرد في تركيا، قبل أن تطفو على السطح قضايا الفساد التي طالت أسرته، وعدد من المسؤولين الكبار في الحكومة، والتي أعقبتها حملة اعتقالات واسعة لعدد من رجال الشرطة، بالإضافة إلى محاولاته المستمرة للتضييق على الإعلام المعارض، وهو ما دق ناقوس الخطر لدى قطاع واسع من الشعب التركي، وأعطى مؤشرات سلبية عن الفترة الأخيرة من حكم أردوغان الذي قلص نفوذ المؤسسة العسكرية، وضاعف دخل الفرد 3 مرات، وجعل من تركيا الدولة الأسرع نموًا في أوروبا، لكنه - حسبما يرى الكثيرون - قد فقد بوصلته مؤخرًا، وضل الطريق الذي سلكه في أعوامه الأولى على رأس الدولة.