كتب - عمرو صلاح: بحلول الثلاثين من يونيو 2013 كانت مصر على موعد جديد مع إعادة تشكيل خارطتها السياسية الداخلية، فجماعة الإخوان المسلمين التى حازت أكثرية برلمانية وانتخب أحد أعضائها رئيسا للبلاد ب12 مليون صوت، صارت قاب قوسين أو أدنى من السقوط. احتمال كان شبه مؤكد، ولم يكن باقيا سوى بيان الجيش الذى أعلنه وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسى بعد ثلاثة أيام. وقبيل موعد الحيسم -من قبل الجمهور والجيش- كان المحللون عاكفين بشدة على توقع سيناريوهات ما بعد سقوط الإخوان المسلمين عن الحكم، وكيف سيؤثر ذلك على مستقبل الإسلام السياسى فى البلاد. تركز أغلب التوقعات وقتها على سيناريوهين محددين؛ إما استمرار ظاهرة الإسلام السياسى فى السياسة المصرية بحجم أقل بكثير مما سبق، حال قبول جماعة الإخوان المسلمين بسلمية لما فرضه الواقع الجديد على المدى الزمنى القريب والمتوسط.. وإما الانحسار التام لموجة الإسلام السياسى فى المجتمع، ودخول الدولة فى مواجهة مع الإسلام السياسى، حال أن رفضت جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها الواقع الجديد. ومع تصاعد العنف الذى ارتكبته جماهير الإخوان المسلمين وحلفاؤها، صار من المؤكد أن المواجهة سوف تكون طويلة وممتدة، لكن وجود حزب النور السلفى فى إعلان خارطة الانتقال السياسى أمام وسائل الإعلام يوم 3 يوليو 2013، كان مؤشرا أيضا على أن نهج الدولة فى التعامل مع فصائل الإسلام السياسى لن يكون واحدا. السيسي والإخوان على الرغم من تكهن البعض بإمكانية الوصول إلى تسوية بشكل أو بآخر مع جماعة الإخوان المسلمين، أو اتفاق ضمنى يسمح لها بالوجود، ولو على نطاق محدود، كان النهج العنيف الذى أصرت عليه الجماعة، التى رأت فى رئيس الجمهورية الجديد عبد الفتاح السيسى بمثابة عدو رئيسى لها، سببا فى اعتماد مقاربة واحدة وهى المواجهة المباشرة بين الطرفين. وكان قرار إحدى المحاكم المصرية بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية ومصادرة أموالها، ثم قانون مكافحة الإرهاب، الذى صدر عن الحكومة الانتقالية برئاسة الببلاوى، ثم صدور الدستور الجديد الذى حظر تأسيس أحزاب على أساس دينى فى عهد الرئيس المؤقت عدلى منصور، جميعها أدوات رئيسية مكنت الرئيس عبد الفتاح السيسى من التصعيد لأقصى مدى فى مواجهة الجماعة، إذ أتاح مجموع تلك القرارات والأحكام الصلاحية للسلطة التنفيذية لتقديم أعداد ضخمة من أعضاء الجماعة فى مواقعها العليا والوسيطة وقادة المكاتب الإدارية إلى محاكمات بتهم عدة. واستكملت مؤسسات الدولة المختلفة حربها على الجماعة باستمرار مصادرة عديد من الاستثمارات الاقتصادية للجماعة، إيمانا بأن السيطرة على الموارد المالية للجماعة يمكن أن تحد من قدرتها على الحركة والتأثير. وبعد ثلاثة أشهر من تولى السيسى الحكم الذى بدا أنه غير قابل للتراجع عن مواجهة شاملة مع الجماعة، ثم كان صدور الحكم القضائى الذى حظر حزب الحرية والعدالة فى أغسطس 2014. وبحلول عام تقريبا على انتخاب الرئيس السيسى ومرور 20 شهرا على قرار الدكتور حازم الببلاوى بتشكيل لجنة لحصر أموال الإخوان المسلمين، حصرت اللجنة ما يقرب من ال95% من ممتلكات التنظيم سواء العقارية أو السائلة أو المنقولة، وكذلك الأسهم والسندات والحسابات السرية بالبنوك والشركات، التى تقدر بنحو 30 مليار جنيه. وقامت بالتحفظ على أموال 1200 قيادة إخوانية و1133 جمعية و558 شركة و42 مستشفى. وخلال العام نفسه واصلت مؤسسات الدولة العمل من أجل السيطرة أيضا على أنشطتهم الدينية، وقام الأزهر ووزارة الأوقاف باتخاذ إجراءات للحد من وجودهم فى المجال الدينى العام. وفى المقابل تعاملت وما زالت تتعامل الجماعة أو ما تبقى منها مع الأمر على أنه معركة وجودية تراهن فيها على كل ما تملك من كروت وآليات سواء احتجاجية أو تخريبية أو قائمة على مطالبة شركاء الخارج من الدول، بالضغط على الحكومة المصرية أو التأثير فى سمعتها الدولية، بلعب دور الضحية، وروايتها حول أحداث «رابعة» والأحكام التى تلقاها قادتها بالإعدام بمن فيهم المرشد العام للجماعة محمد بديع والرئيس الأسبق محمد مرسى. وعلى الرغم من دفع أطراف داخلية وخارجية أبرزها قطر وتركيا والولايات المتحدةالأمريكية، التى ربطت تقديم المساعدات العسكرية لمصر شريطة استيعاب النظام المصرى جماعة الإخوان المسلمين بإقرار مصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين، فإن الرئيس السيسى حتى هذه اللحظة يبدو مصرا على خوض المعركة حتى النهاية، ولا يبدو أنه يحمل نية للتراجع، خصوصا بعد أن تجاوزت مصر المرحلة الحرجة على المستوى الدولى، وأصبحت علاقتها الدولية مع القوى الكبرى أكثر استقرارًا فى ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التى يشهدها العالم. السيسي والسلفيون وعلى عكس العلاقة بجماعة الإخوان المسلمين، وعلى الرغم من أن الإطار الدستورى الحاكم لعمل الأحزاب السياسية فى مصر، الذى من المفترض أن ينطبق على حزب النور كما ينطبق على حزب الحرية والعدالة المنحل، فإن مقاربة الرئيس السيسى تبدو شديدة البراجماتية ومحفوفة بالمخاطر فى آن واحد فى التعامل مع التيار السلفى. لقد شارك حزب النور السلفى فى إعلان خارطة الطريق ما بعد 30 يونيو، وظهر ممثله جنبا إلى جنب مع وزير الدفاع وقتها المشير عبد الفتاح السيسى، وكان الحزب إحدى القوى السياسية المشاركة فى صياغة الدستور المصرى الجديد، والداعى إلى التصويت عليه ب«نعم»، على الرغم من صبغته الليبرالية. ثم كان إعلان حزب النور دعمه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى انتخابات الرئاسة بعد اجتماع الهيئة العليا الذى أقر بأغلبية التصويت هذا القرار. اتجاه من قبل حزب النور والدعوة السلفية وصفه البعض بأنه شديد البراجماتية فى التخلى عن شركاء الأيديولوجية نفسها، سواء ممن هم على يمين السلفيين أو على يسارهم، ويستهدف فى الحد الأدنى الحفاظ على الوجود السلفى آمنا، أو القبول بمساحة الحركة المتاحة، وفى حده الأقصى ربما أملا أو انتظارا لتفهم ضمنى بأن يحل السلفيون محل المساحة التى شغلتها جماعة الإخوان المسلمين، أو أن يكونوا بديلا لها كصوت إسلامى (سياسى) أخير ما زال باقيا. وعلى مدار عام كامل وفى المقابل كان الرئيس حريصا على استمرار بقاء حزب النور فى العملية السياسية، فى ما يبدو سعيا كى لا تكتسب جماعة الإخوان الملسمين والجماعات الراديكالية أنصارا جددا يشاركون بفاعلية فى عمليات العنف. وبالفعل كان لحزب النور حرية من الحركة تتيح له ممارسة العمل السياسى والمشاركة فى الفاعليات السياسية المختلفة، وحضور اللقاءات الرسمية مع المسؤولين فى الدولة على كل المستويات، بما فى ذلك اللقاءات الرئاسية، وإبداء آرائهم فى كل الشؤون المطروحة فى المجال العام، وآخرها قانون الانتخابات الذى سوف تجرى وفقا له الانتخابات البرلمانية القادمة. وبالفعل واصل حزب النور عمله، وإن كان قد تأثر بالمناخ العام المناهض للإسلام السياسى وفقدان الثقة من بعض قطاعاته التى رأت نهجه انتهازيا، إلا أنه ما زال يعمل على إعداد بنيته الداخلية فى سبيل خوض الانتخابات البرلمانية القادمة. وعلى الرغم من سعى الدولة المصرية خلال العام الماضى إلى السيطرة على المجال الدينى من قبل الأزهر ووزارة الأوقاف فى ما يتعلق بمحتوى الخطب وتنظيم صعود المنابر، وهو ما تأثر به أئمة السلفيين فى البداية، لكن مع مرورو الوقت أتاحت الدولة مساحات تدريجية إضافية لأئمة التيار السلفى وبدت المواءمات الامنية حاكمة لتلك العلاقة. وفى المقابل كانت القيادات السلفية الحزبية أو الدعوية حريصة على أن تقدم مقابلا للسماح بوجودها، متمثلا فى استمرار دعم الدولة وقيادتها فى حربها على الإرهاب وفى قضاية عدة، بل وتوفير غطاء دينى لعدد من القرارات مثل القرار المصرى بالمشاركة فى التحالف العربى فى حرب اليمن، الذى وصفه أئمة وشيوخ السلفية بأنه قرار يصب لصالح حماية الدين فى مواجهة الشيعة! العلاقة تلك ربما تذكر البعض بالعلاقة التى كانت سائدة ما بين الدولة فى عهد السادات ومبارك فى التعامل مع الجماعات السلفية، التى لم تكن قد تحزبت بعد فى عهد مبارك، حيث التنسيقات الأمنية تضمن أن تكون حركة التيار السلفى محكومة فى إطار متفق عليه، بما لا يمثل إزعاجا للدولة أو تجاوزا للحدود التى تضعها، وبهدف عدم اختصام عدو إسلامى جديد، وربما الانتقاص من المساحة التى كان يشغلها الإخوان المسلمون. السيسي و«أنصار بيت المقدس» مع الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين من فوق سدة الحكم، ازدهرت الأعمال الإرهابية فى سيناء، وشهد عام 2013 هجمات استهدفت مقرات أمنية، وخلَّفت ما اقترب من ال55 قتيلاً حتى نهاية عام 2013. وفى عام 2014 بدا أن سيناء تشهد مزيدا من الصعود للجهاديين، خصوصا من جماعة أنصار بيت المقدس التى تحمل علاقات وطيدة بجماعات داخل قطاع غزة، تسهل لها إمدادات تسليح وملاذ آمن لعناصرها الهاربة. وتركزت جماعة أنصار بيت المقدس (فى منطقة الشمال الشرقى لسيناء ما بين حدود غزة والعريش شمالا ووصولا إلى المناطق الجبلية بوسط سيناء)، وقد أعلنت مبايعتها تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام، فى محاولة لإظهار مزيد من القوة والصمود أمام العمليات العسكرية المصرية وأمام العالم. وكثفت من عملياتها فى سيناء؛ وبخلاف العمليات التى ازدادت بشكل واضح لاستهدف أعداد محدودة من رجال الجيش والشرطة بشكل شبه دورى، شهدت سيناء عمليات إرهابية ضخمة أبرزها عملية كرم القواديس، التى نفذها التنظيم فى أكتوبر عام 2014، وتعتبر من أكثر العمليات الإرهابية تأثيرا، حيث راح ضحيتها ما يزيد عاى 30 جنديا، ومع بداية 2015 شهدت سيناء عملية عرفت إعلاميا باسم «عملية الكتيبة 101» واستهدفت فندق القوات المسلحة بالعريش وفندق ضباط الشرطة وبعض الكمائن بمدينة الشيخ زويد، التى أسفرت عن 25 قتيلًا، وعشرات المصابين. وفى إطار المواجهة المقابلة وسعت القوات المسلحة المصرية من عملياتها العسكرية فى سيناء ومن عمليات هدم الأنفاق، وأصدر الرئيس قرارا بإخلاء الشريط الحدودى مع غزة من المنازل لمواجهة عمليات تهريب العناصر المتطرفة والسلاح. وقد مكن حكم محكمة الأمور المستعجلة فى القاهرة فى فبراير باعتبار حركة حماس الفلسطينية «منظمة إرهابية» كارتا إضافيا لدى الرئيس فى سبيل الضغط على حركة حماس من أجل وقف «دعم المتطرفين» فى سيناء. فى النهاية يظل السؤال مطروحا، هل يمكن القول إن الإسلام السياسى قد انتهى فى المجتمع المصرى في إطار تلك الاستراتيجية؟.