قد تكون أزمة رابطة الطيارين المصرية وضعت أوزارها، ولو مؤقتا، بعد أن كانت قد اشتعلت على مدى الأيام الماضية بينها وبين إدارة شركة «مصر للطيران» للخطوط الجوية، غير أن القراءة المتأنية لما جرى قد تكون درسا بليغا لفهم وقائع ما جرى وتفادى تكرار تلك الأزمات التى قد تنعكس بالسلب على خدمة مهمة تمس حياة المصريين فى حِلّهم وترحالهم. قد يقول قائل إن ما حدث لم يكن أزمة بالمعنى الحقيقى، لكنه خلاف أساء الجميع إدارته، وتم إنهاؤه ببعض كلمات من الرئيس عبد الفتاح السيسى، غير أن هذا يزيد من الصورة قتامة لوجود فجوات وثغرات فى الصورة، خصوصا أن شركات عربية وإفريقية منافسة ل«مصر للطيران» تريد أن تقصيها وتستحوذ على سوقها، وأن هذه الشركات تابعة لدول غير صديقة قدمت عروضا مغرية لبعض الطيارين مما تسبب فى حدوث بعض اللغط. إن «مصر للطيران»، التى احتفلت الخميس الماضى بمرور 83 عاما على إنشائها، تعانى اليوم وتتراجع وتتخبط، وشركات أخرى إفريقية حديثة بدأت تسحب منها البساط والسوق، وهذا إن دلّ فإنه يدل على عدم وجود رؤية إدارية وعدم وجود خطة تسويقية وخطة مستقبلية شاملة. رابطة الطيارين أنهت الأزمة ببيان لها صدر صباح الجمعة الماضية، قالت فيه إنه «استجابةً لتوجيهات رئيس الجمهورية قررنا نحن مجلس إدارة رابطة طيارى الخطوط الجوية المصرية وجموع الطيارين سحب جميع الاستقالات التى تقدمنا بها». وتابع البيان: «فى أثناء الأزمة لم تكن لنا مطالب مادية، كما لم يحدث منا أى تعطيل للعمل، فطيارو مصر للطيران على أعلى درجة من الوطنية وحب الوطن، وإننا مستمرون فى العمل على أعلى مستوى من التشغيل والسلامة». الأزمة كانت منفجرة فى وجوه الجميع داخل «مصر للطيران» إلى أن تدخل الرئيس عبد الفتاح السيسى، إذ كلّف كلا من رئيس الوزراء إبراهيم محلب، ووزير الطيران حسام كمال، بحل أزمة الطيارين، حتى إنه تردد أنه رفض وجود وزير الطيران المدنى فى أثناء استقبال الدفعة الأولى من المواطنين الإثيوبيين الذين تم تحريرهم من ليبيا، قائلا له: «يا ريت تنهى مشكلة الطيارين وأسمع منّك تمام يافندم». هل من المعقول أن يكون تدخل الرئيس ضروريا فى كل أزمة حتى تنتهى؟ هل هكذا نبنى دولة المؤسسات؟ لماذا تفشل المفاوضات الهادئة والمناقشات الجادة فى تسوية الأزمات ونزع فتيل المفاوضات وتجسير الفجوة بين طرفَى أى خلاف؟ ما نعرفه هو أن الأزمة قد بدأت عندما رفض عدد من الطيارين اللائحة المالية الجديدة التى أقرّتها شركة «مصر للطيران» للخطوط الجوية، والتى وصفوها بأنها لائحة جزاءات وليست لائحة مالية وبها عديد من العوارات القانونية، وأن إدارة الشركة لم تأخذ بتوصيات الرابطة ونقابة العاملين بالنقل الجوى فى أثناء مناقشة هذه اللائحة، فتم تصعيد الأزمة وتقدم نحو 224 منهم باستقالة جماعية، وطالبوا فى مقابل العدول عن هذه الاستقالة وعدم تعريض الشركة لمخاطر فى التشغيل برفع رواتبهم إلى نحو 50٪، وهو ما رفضته الشركة بشكل قاطع، متذرعة بسوء الأوضاع المالية للشركة والخسائر التى مُنيت بها منذ قيام ثورة 25 يناير، والتى وصلت إلى نحو 11 مليار جنيه. تجاهلت الشركة حقيقة أن هناك فجوة فى الدخل بين أجور طيارى «مصر للطيران» وطيارى الشركات الخاصة، علما بأن رواتب الطيارين الذين يبلغ عددهم نحو 850 طيارا يحصلون على نسبة من إجمالى الرواتب وصلت إلى 900 ألف جنيه سنويا. ونصَّت الاستقالة المقدمة إلى رئيس شركة «مصر للطيران» للخطوط الجوية، التى ضمت أسماء 224 طيارا، أن «سوء بيئة العمل والأحوال المحيطة بالطيارين وتدنى دخل طيارى الشركة، الذين باتوا أصحاب أقل دخل بين طيارى العالم، أوجبت تقديم استقالة جماعية». واضح أن هناك غضبًا شديدًا تصاعد فى صفوف الطيارين نتيجة عدم رغبة إدارة «مصر للطيران» فى حل المشكلة وعدم إدارتها الجيدة للأزمة وتهديدها بقبول الاستقالات المقدمة، قبل أن يأتى تدخل الرئيس لينهى الأزمة ببضع كلمات وتوجيهات. الشاهد أن قبول استقالة الطيارين الرافضين للائحة المالية الجديدة كان سيعنى إهدارا للمال العام، نظرا إلى أن كل طيار منهم له تكلفة تصل إلى مليون جنيه، وهو ما يعنى أنه إذا كان قد تم قبول استقالة 224 طيارا متظلمين، فهناك إهدار 224 مليون جنيه على الدولة. إن شركة «مصر للطيران» مطالَبة بالتروّى والبحث فى أسلوب إدارتها كى تتجنب تكرار الأزمة، بدلا من أن تتجه إلى التقصير فى حق الطيارين المصريين، الذين أنفقتْ عليهم ملايين الجنيهات فى التدريب ورفع مستواهم للوصول بهم إلى الكفاءة العالمية المشهود بها، والتفريط فيهم بمنزلة قضية أمن قومى. ولعله من المؤسف أن نشهد التفريط فى الطيارين المصريين ذوى الكفاءات من خلال عدم دراسة أسباب هجرتهم خارج البلاد للعمل فى شركات خليجية وغيرها. علينا إدراك واقع الحال والعمل على رفع مستوى المعيشة لهؤلاء الطيارين بشكل يليق بهم ماديا واجتماعيا، خصوصا أن الطيار يتحمل مسؤولية الطائرة وركابها بمختلف الجنسيات. وحسب شريف المناوى، رئيس رابطة الطيارين، فإن السبب فى تراجع مستوى «مصر للطيران» بين منافسيها من الشركات الأخرى يرجع إلى سوء الإدارة ورفع الأسعار. ويشير المناوى إلى أن أسعار الرحلات فى الشركة أكثر من نظيرتها بشركة «طيران دبى» بما يعادل 35%، ولا تقدم نفس الجودة فى الخدمة التى تقدمها الشركة الإماراتية. هناك خلل ما، على «مصر للطيران» أن تدرسه بهدوء ورويّة، لتعرف أسباب خسائرها، وفشلها، وترهلها، وسوء إدارتها. هذا هو السبيل، إن كنا نريد أن نتعلم من تجربة أزمة الطيارين.