فجأة هاج وماج موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، وقصف بمدفعيته الثقيلة مسؤولا نسبوا إليه أنه يفضل أن يتنازل الشباب ويقبل بأن يسكن شقة مساحتها 35 مترًا! فى البداية ظننت الأمر واحدة من المعارك الوهمية التى يختلقها رواد «فيسبوك»، وما أكثر تلك المعارك وما أخطرها! وتأتى خطورتها من أنها تسهم بقدر لا يُستهان به فى عملية تفتيت يقين المواطن المصرى الذى أصبح يعيش فى متاهة كونية من الأخبار والتصريحات والسياسات التى لا تتسق مع أدنى درجات العقل أو التعقل. سألت زملائى من محررى العقارات عن حقيقة الأمر، فأكدوا أن «فيسبوك» يتحدث عن حقيقة وليست تشنيعة. ثم بمزيد من البحث عثرت على نص ما قاله سيادة المسؤول: قال فتحى السباعى، رئيس بنك الإسكان والتعمير: «إن أزمة الإسكان موجودة وستظل موجودة فى كل دول العالم، مطالبًا الشباب بتغيير ثقافته السكنية، والقبول بشقة 35 مترًا بدلا من المساحات الكبيرة». وأضاف السباعى، خلال مؤتمر صحفى: «لو أننى أمتلك قرار منح الوحدات السكنية، فالقبول بحجرة أو شقة استوديو أفضل من أن تعيش 4 عائلات فى شقة واحدة». وأشار السباعى إلى أن «معدلات الطلب على الوحدات السكنية شهدت زيادة بعد حالة الاستقرار التى شهدتها مصر سياسيا واقتصاديا بعد ثورة 30 يونيو، خصوصًا بعد أن تباطأت السوق العقارية بعد ثورة يناير على خلفية المحاكمات التى خضع لها مستثمرو العقارات والمطورون العقاريون». وأكد السباعى أن «البحث عن الاستثمار فى العقارات أصبح أفضل لدى بعض المواطنين، وملاذًا آمنًا للاستثمار، لا سيما فى ظل ارتفاع معدلات التضخم، وكذا ارتفاع أسعار الدولار». انتهى كلام الرجل الذى ظننته فى أول الأمر مجرد تشنيعة، فإذا به توجُّه من مسؤول كبير من مسؤولى الدولة، السباعى رئيس بنك تابع لوزارة الإسكان، ومهمة بنكه الأولى تمويل مجمل عمليات الإسكان والتعمير بمختلف أشكالها، وما قاله هو ما يؤمن به بعيدًا عن التصريحات الوردية التى تبشر بفيلا وحديقة لكل مواطن، ولكن فات السيد السباعى أن يشير إلى مشروع مماثل أقامته الدولة فى عهد مبارك على أطراف مدينة السادس من أكتوبر، وكانت مساحة الشقة تبلغ 42 مترًا يعنى بزيادة 7 أمتار عن الشقق التى يقترحها سيادته، مشروع مبارك فشل بجدارة فى حل ولو جزء من مشكلة الإسكان، بل أصبح هو ذاته مصدرًا من مصادر المشكلة وليس حلا لها. لقد تحولت شقق مبارك إلى خرابة مكتملة الأركان ولم تفلح كل مجهودات تسويقها فى جلب سكان لها، وهذا ليس لأن المصرى يفضل سكنى القبور على سكنى شقة مساحتها 42 مترًا، ولكن لأن المصرى قد ضاق ذرعًا بكل هذه الألعاب البهلوانية، ولم تعد تنطوى عليه كل تلك الحيل. شعب يمتلك أرضًا تبلغ مساحتها نحو المليون كيلومتر مربع، معظمها صالح لإقامة مشروعات سكنية تليق ببنى الإنسان، ثم يباغت برغبة حكومية جنونية فى شرعنة علب موت يزعمونها شققًا سكنية! هل من المنطق فى شىء أن يقبل المصرى بهذا الحل؟! كان الواجب على السيد السباعى أن يمد الخيط إلى منتهاه إن كانت لدية رغبة جادة فى التصدى لكارثة الإسكان فى مصر، وهى بالحق كارثة لو نظرنا إلى بُعدها الاجتماعى والأخلاقى، وليس المجال مجال الحديث عن جرائم أخلاقية تفرضها طبيعة السكن، فكلنا يعرف ما يدور وكلنا نتواطأ على الصمت القاتل! لو كان السيد السباعى جادًّا لتحدث عن حلول تخفّض أسعار مواد البناء من أسمنت وحديد، خصوصًا تلك الصناعات الاستراتيجية التى باعها مبارك، ثم لم تفكر الدولة فى تعويضها، ثم كان على السباعى أن يتحدث عن المغالاة فى أسعار أرض البناء، والجميع يعرف الذين يضعون أيديهم على ثروة مصر العقارية، ولكن أن يتم تكبيل الشباب والفقراء بصفة عامة بشقق مساحتها 35 مترًا، فهذا عبث لا بد وأن يتوقف.