منذ أن أصبحت هناك دويلة اسمها إسرائيل فى قلب المنطقة العربية عام 1948، وكذلك شعب آخر شردته هذه الدويلة، التى استولت على أراضيه ومقدراته، وأيضا أعداء عرب، ونحن نعيش قصة صراع طويلة وعميقة، تؤجج المنطقة كلها بحروب صغيرة وكبيرة، واحتلال أراض، وسياسات عربية مرتبكة، وجواسيس وخونة، وجيوش مهزومة، وجيوش منتصرة، ومؤتمرات وساسة وقيادات تعيش على هذه القصة الدامية، ودماء تسيل على كل الأراضى العربية، وشعراء للأرض المحتلة، ورغم كل ذلك فلا يوجد فى الأفق حل لهذه القضية الدامية. وفى قلب كل ذلك كانت أعمال الجاسوسية هى بطل الأحداث، التى تطل برأسها بين الحين والآخر، وهناك قصص مدهشة وغريبة، أصبحت من كلاسيكيات الجاسوسية فى العالم، وكذلك برع كتّاب كثيرون فى إبداع قصص وروايات فى هذا المجال بامتياز، ويقف الكاتب المصرى الكبير الراحل صالح مرسى فى مقدمة هؤلاء الكتاب، فقد أبدع لنا قصص الحفار ورأفت الهجان، وكذلك كتب عددا من المؤلفات البحثية فى هذا المجال، لتعطينا ملفا وافيا عن الجاسوسية فى العالم وفى التاريخ كذلك. ومن الأحداث والقصص المدهشة، قصة الطالب سمير فؤاد الإسكندرانى، الشهير ب«سمير الإسكندرانى»، الذى أصبح فنانا ومطربا كبيرا، يعرفه المصريون، ويعشقون أغنياته، ويرقصون عليها. تبدأ القصة عندما كان سمير يدرس اللغة الإيطالية فى معهد ليلى إيطالى بالقاهرة فى عام 1955- 1956، وكان ترتيبه الأول فى نهاية العام، فقرر المعهد منحه بعثة مجانية فى فترة الإجازة الصيفية لمدة شهر فى جامعة «بيروجيا» بإيطاليا. ثم كان ترتيبه الأول فى العام التالى 1957- 1958 فمنحه المعهد بعثة مجانية أخرى فى نفس الجامعة لمدة شهرين، وكانت بداية الدراسة بالجامعة فى هذا العام فى 15 يوليو 1958. وفى سبتمبر من ذلك العام، كان سمير يلعب البلياردو ويتعلم الرقص فى أحد النوادى الإيطالية، وإذا به يلتقى بشخص يقدّم نفسه له باسم «سليم»، وأبدى هذا الشخص إعجابه بسمير، ودارت بينهما فى البداية حوارات عادية، عن الحياة والفن والغربة والدراسة والتعليم، وتكررت المقابلات بين سمير وسليم، وكان الأخير حريصًا على توطيد المودة بشكل لافت وملحوظ. ولكن كانت هناك تقنيات معينة فى توطيد هذه العلاقة، إذ كان سليم يختفى فجأة، حتى يضع سمير الإسكندرانى فى اختبارات كثيرة، ليكشف بها عن مدى اهتمام سمير بهذه العلاقة. وفى تطور لاحق فى الحوارات، بدأ سليم يتكلم عن سياسة الغرب، وإعجابه بهذه السياسة، وكان يبدى بشكل غير مباشر كراهيته للعرب، وكان يختبر مشاعر سمير رويدا رويدا تجاه هذه الحوارات، وكان يسأله عن أهدافه فى الحياة، وكانت إجابة سمير أنه يريد استكمال دراسته الفنية فى إيطاليا أو النرويج أو السويد، وأنه يريد أن يتخصص فى صناعة الموبيليا وطرق إخراج الديكورات السينمائية، وذلك بعد أن يتخرج فى كلية الفنون بالقاهرة. وأوضح سمير أنه لن يكون قادرًا على تحقيق هذه الأحلام، وأن هذا يتوقف على حالة والده المالية، وعند هذه النقطة بدأت المرحلة الثانية لسليم، وليقنع الإسكندرانى بالقيام ببعض المهام البريئة للحصول على الأموال، ولتحقيق أهدافه العظيمة، وقال له: «هناك فرصة كبيرة لتحقيق أحلامك، واطمئن ولا تفكر فى الموضوع». كل هذا وغيره نشرته صحيفة «الجمهورية» فى 22 أبريل عام 1960، على عدة صفحات كاملة، وكان مانشيت الجريدة الرئيسى «وثائق التجسس.. البرقيات المرسلة بالشفرة إلى حيفا وردّ مخابرات إسرائيل.. قصة الطالب سمير الإسكندرانى والمهندس عز الدين نعيمو اللذين خدعا مخابرات إسرائيل فى إيطاليا وألمانيا.. قنصل إسرائيل فى هولندا هو الذى اتفق مع الجاسوس الهولندى». وعلى الصفحة الأولى كذلك تنشر الصحيفة صورة كبيرة وتكتب تحتها: «سمير الإسكندرانى يتحدث إلى الجمهورية»، وتنشر خبرا صغيرا بجوار الصورة يوضح بأن الطالب سمير الإسكندرانى لن يسافر إلى الخارج، لأنه بعد القبض على شبكة الجاسوسية الضخمة، التى كانت تريد قتل جمال عبد الناصر، عبر وضع سمّ له فى الطعام، بواسطة الشيف المصرى الذى كان يعمل فى «جروبى»، وكذلك قتل عبد الحكيم عامر، لن يستطيع سمير السفر، لأنه أصبح هدفا للقتل من قبل المخابرات الإسرائيلية. وهناك خبر آخر على الصفحة ذاتها، عنوانه «والد سمير ضحى بمبلغ 1200 جنيه»، وهذا لأن والد سمير الإسكندرانى اضطر إلى أن يدفع نفقة تكاليف عودة سمير الإسكندرانى من الخارج، خوفا من جواسيس إسرائيل لتعقبه وقتله. وفى الصفحة الثالثة من الجريدة، التى جاءت كلها متابعة للموضوع، هناك صور عديدة لسمير وحده وهو يتحدث، ثم لسمير بين أسرته، ثم لشقيق سمير الذى يروى رحلة العودة من الخارج، وكانت مانشيتات الصفحة كلها ساخنة ومثيرة، بالإضافة إلى نشر صور لرسائل زنكوغرافية تم تداولها بين سمير والمخابرات الإسرائيلية. واللافت إلى النظر أن الصحيفة نشرت بعضًا من الخطط التى اتبعت فى الإيقاع بالشبكة الجاسوسية، ومنها مثلا اصطياد الجواسيس عبر المكالمات التليفونية التى كانوا يجرونها مع سمير، وكانوا يحددون أماكنهم، وهكذا تم اصطياد هؤلاء الجواسيس واحدا تلو الآخر، وبعدها تم الإعلان عن تفاصيل هذه القضية، وبعدها راحت الصحف تطارد الإسكندرانى بالأخبار، مثل منحه فرصة للحج إلى الأراضى المقدسة، وكذلك كتب موسى صبرى مقالا عاطفيا جدا فى مديحه عندما التقى به. والمدهش أنه قد ورد فى التغطية فى سياق ذكر الأموال أن ال700 دولار كانت توازى 300 جنيه مصرى، والملاحظة الأخرى أن سمير الإسكندرانى تحدث عن هذه القضية كثيرًا فى الصحف، ولفت نظرى قوله إنه عندما التقى جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت، بمعاونة صلاح نصر، الذى تعرّف عليه سمير تحت اسم «جعفر»، وجد صورة لمحمد نجيب معلقة على الجدار، وهذا ما أثار فضولى كثيرا، ربما يسلمنى لتساؤلات عديدة، أبرزها -إذا كانت هذه المعلومة دقيقة-، لماذا ظل جمال عبد الناصر يحتفظ بصورة عدوه اللدود معلقة على الجدران حتى هذا الوقت الذى أثيرت فيه القضية؟!