يظل ملف المهاجرين الحالمين بالسفر إلى أوروبا، الذين تغرق قواربهم المتهالكة فى البحر المتوسط كل صباح، ملفًّا مسكوتًا عنه فى الأوطان العربية صمتًا مريرًا، هؤلاء العرب الذين باتوا يشكلون نسبة كبيرة بين هؤلاء البؤساء المهاجرين، خصوصا بعد انفجار الأوضاع فى الأوطان العربية بعدما تحول الربيع العربى إلى شتاء طويل. خلال هذا الأسبوع غرقت سفينتان، الأولى كانت تحمل 700 شخص، قبالة سواحل ليبيا، والأخرى كانت تحمل 300 أمام السواحل الإيطالية، المشكلة الحقيقية أن أغلب هؤلاء الذين كانوا على متن هذين القاربين هم من السوريين الهاربين من جحيم بشار و«داعش»، وهم هاربون أيضًا من أكاذيب الأوطان العربية التى كثيرا ما رفعت شعارات الإخاء، لكنهم لم يمنحوا السوريين سوى الاضطهاد وسوء المعاملة، سواء فى لبنان أو الأردن أو مصر. ولا يوجد دليل على حجم التجاهل الموجود أكثر من حجم التجاهل الذى نالته تلك الحادثة التى وقعت فى أكتوبر الماضى، وكان أبطالها مصريين، حين أغرق أحد المهربين من دمياط المصرية متعمدًا قاربًا يحمل 500 شخص فى البحر، هذا القارب كان يحمل على سطحه مصريين وسوريين وفلسطينيين، حاول المهرب المصرى بعدما أقلع بمركبه من ميناء دمياط نقلهم إلى قارب آخر أصغر حجمًا، لكن هؤلاء البؤساء رفضوا النزول إلى القارب الأصغر خوفًا من أن يغرق بهم، فما كان من المهرب إلا أن قام بضرب القارب الكبير بالقارب الآخر الصغير حتى يثير الفزع فى قلوبهم ويجبرهم على الانتقال إليه، لكن محاولته تلك كانت حمقاء أكثر مما ينبغى، وانتهى الأمر بغرق المركب بأكمله ولم ينجُ من الحادثة سوى عشرة أشخاص. بعد تلك الحادثة صدرت جريدة «نيويورك تايمز» وعلى صدرها صورة لرسالة مكتوبة بالعامية المصرية، كتبها أحد الغارقين، ووجدت بين حطام المركب الغارق، هذه الرسالة التى لم تصل أبدًا، والتى لم تنقلها صحافتنا ولم يهتم بها إعلامنا -الهادف جدًّا-! بل إن الأنكى من ذلك هو أن هذا القاتل الذى أزهق أرواح أكثر من 500 شخص حر طليق، إذ إنه لا يوجد أحد من السلطة ولا الإعلام ولا الشعب قد اهتم بتلك الحادثة، ولم يعره أحد انتباهًا، ولم يهتم أحد بالبحث عمن يكون ذاك المجرم الذى ارتكب تلك المذبحة. على الناحية الأخرى فإن ثمة إجرامًا آخر يُمارس على الجانب الآخر من المتوسط، من هؤلاء الأوروبيين الذين استعمروا أوطاننا ونهبوها سنوات طوالًا، واليوم يضعون حاجزًا صلبًا بين بلادنا وبلادهم، دون أدنى إحساس بالمسؤولية أو الذنب تجاه مخلفات استعمارهم الطويل، والتى هى بكل تأكيد جزء أصيل من مشكلات أوطاننا. فبعد حادثة غرق سفينة تحمل 300 شخص أمام سواحل جزيرة لامبيدوزا بإيطاليا فى أكتوبر عام 2013، وقيام حرس السواحل الإيطاليين بتجاهل حادثة الغرق، حاول الأوروبيون تحت ضغط الرأى العام أن ينفذوا عملية تحفظ ماء وجوههم، فانطلقت عملية «مارى نوستروم» أو «بحرنا»، التى تهدف لتسيير مركبات إنقاذ فى البحر المتوسط من أجل إنقاذ قوارب المهاجرين. لكن العملية التى لم تكمل سوى عام واحد، وتم إلغاؤها بضغوط من بريطانيا، التى قالت إن تلك العملية شجعت الهجرة، وبدلا من ذلك دشنت عملية أخرى تهدف لدعم حرس السواحل فى دول شمال إفريقيا، من أجل محاربة الهجرة من المنبع، وليفعلوا ما شاؤوا مع المهاجرين، فليعتقلوهم أو يطلقوا عليهم النار، مسموح لهم بكل شىء ما دام كل ذلك بعيدًا عن سواحلنا وعن رأينا العام. هذه مأساة تحدث كل صباح، ولا أحد يهتم بها كثيرًا، وهذا شىء جد مؤسف وحزين.