كان بن غوريون يتحدث برعب عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا قائلاً: "لقد أصبحت إسرائيل كالبندقة بين فكّي الكماشة"، ولذلك رقص طرباً هو وسائر الطغمة العنصرية مع الجماهير الإسرائيلية في شوارع تل أبيب، كما عمّت المظاهرات سائر المدن المحتلة من فلسطين بما فيها القدسالمحتلة احتفالاً بانفصام الوحدة وانفصال سوريا عن مصر. ميثاق 17 إبريل.. أمل الوحدة والارتداد لكن بعد قيام الانقلاب ضد عبد الكريم قاسم في العراق وقيام حركة انقلابية في سوريا، رفعت شعار الوقوف ضد الانفصال، تنادت القيادتان الجديدتان في بغداد ودمشق للبحث في إقامة «وحدة ثلاثية» بين مصر وسورياوالعراق، وأسفرت محادثاتها مع عبد الناصر عن ميثاق 17 إبريل الذي يضع الأساس لإعادة الجمهورية العربية المتحدة. ثم جاءت الارتدادات على هذا الميثاق فقطعت الطريق على هذه الفرصة الذهبية العظيمة، وقد ثبتت سطحية وقصر النظر الذين وازنوا بين النزعات الحزبية والشخصية من جهة واهتبال الفرصة لاعادة الوحدة على نطاق أوسع وعلى أسس اكثر ثباتاً، فتغلبت النزعات الانانية عند بعض من كان يرى في الوحدة انتقاصاً من موقعه داخل الوحدة وتم وأد ميثاق 17 نيسان الوحدوي على أيدي من كانوا يظهرون الوحدة ويبطّنون الانفصال. القاهرة ملتقى الوفود العربية الثلاثة التقت في القاهرة الوفود الممثلة لمصر وسورياوالعراق، وامتثالا لإرادة الشعب العربي في الأقطار الثلاثة وفي الوطن العربي الكبير بدأت المباحثات الأخوية بين الوفود الثلاثة يوم السبت السادس من شهر إبريل وانتهت يوم الأربعاء السابع عشر من شهر إبريل سنة 1963. الثورات المصرية والعراقية والسورية كانت ثورة الثالث والعشرين من يوليو نقطة تحول تاريخي اكتشف فيها الشعب العربي في مصر ذاته واستعاد إرادته فسلك طريق الحرية والعروبة والوحدة، وجلت ثورة الرابع عشر من رمضان وجه العراق العربي الصريح وأنارت سبيله إلى أفاق الوحدة التي استهدفها المخلصون في ثورة الرابع عشر من يوليو. ووضعت ثورة الثامن من مارس سوريا في رحاب الوحدة التي اغتالتها ردة الانفصال الرجعي بعد أن حطمت هذه الثورة كل العقبات التي ركزها الانفصاليون والاستعمار بتصميم في طريق الوحدة. والتقت الثورات الثلاث لقاءها هذا الذي أكد من جديد أن الوحدة عمل ثوري يستمد مفاهيمه من إيمان الجماهير وقوته من إرادتها وأهدافه من أمانيها في الحرية والاشتراكية، "إن الوحدة ثورة، ثورة لأنها شعبية، وثورة لأنها تقدمية، وثورة لأنها اندفاع قوي في تيار الحضارة". والوحدة خاصة ثورة لأنها مرتبطة ارتباطا عميقا بقضية فلسطين والواجب القومي بتحريرها، فنكبة فلسطين هي التي كشفت تآمر الطبقات الرجعية وفضحت خيانات الأحزاب الشعوبية العميلة وتنكرها لأهداف الشعب وأمانيه، وهي التي أظهرت ما في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في البلاد من ضعف وتخلف وهي التي فجرت طاقات جماهير شعبنا الثورية وأيقظت روح التمرد على الاستعمار والظلم والفقر والتخلف، وهي التي دلت بوضوح إلى طريق الخلاص، طريق الوحدة والحرية والاشتراكية. لقد كان ذلك ماثلا أمام الوفود في مباحثاتها: فلئن كانت الوحدة هدفا مقدسا، فهي أيضا عدة النضال الشعبي ووسيلته لتحقيق أهدافه الكبرى في الحرية والأمن وفي تحرير جميع أجزاء الوطن العربي وفي إرساء مجتمع الكفاية والعدل، مجتمع الاشتراكية، وفي استمرار التيار الثوري في اندفاعه دون انحراف أو انتكاس، وامتداده ليشمل الوطن العربي الكبير، وفي الإسهام في تقدم الحضارة الإنسانية ودعم السلام العالمي. فاجتمع الرأي على أن تقوم الوحدة بين الأقطار الثلاثة كما يريدها الشعب العربي على أسس الديمقراطية والاشتراكية، وان تكون وحدة حقيقية متينة تراعي الظروف القطرية لتحكم عرى الوحدة على أساس من الفهم الواقعي، لا لتكرس أسباب التجزئة والانفصال وتجعل من قوة كل قطر قوة للدولة الاتحادية للوطن العربي، ومن الدولة الاتحادية قوى لكل قطر فيها وللأمة العربية كلها. قواعد التنظيم السياسي والجبهات الحزبية في الميثاق إن وحدة الهدف ووحدة القيم والمبادئ تتطلب من كل القوى الوحدوية الاشتراكية الديمقراطية في كل قطر من أقطار الدول الاتحادية تكوين جبهة سياسية ترتبط بميثاق للعمل الديمقراطي الاشتراكي الوحدوي، تستهدف منه توحيد العمل السياسي في القطر، وتطوير الحوافز الثورية للجماهير تحقيقا لحياة أفضل تحاول بها أن ترتفع بواقعها إلى مستوى أمانيها، كما تعمل هذه القوى على توحيد جهودها في تنظيم سياسي واحد مرتبط بميثاق العمل القومي ملتزمة في ذلك بما تقرره هذه الجبهة بالأغلبية، لتجسد على هذا المستوى وحدة إرادتها ولتستطيع تحمل مسؤوليتها والقيام بواجباتها. وعلى مستوى الدولة الاتحادية تتكون قيادة سياسية واحدة تقود وتوحد العمل السياسي في الدولة في إطار هذا الميثاق، على أن تلتزم الجبهات السياسية في الأقطار أو التنظيمات الموحدة فيها بقرارات القيادة الاتحادية التي تصدر بالأغلبية. وعلى هذه القيادة أن تضع تدريجيا تنظيما سياسيا موحدا يقود العمل السياسي القومي في دولة الاتحاد وخارجها، وان تعمل على تعبئة قوى الجماهير لفرض إرادتها في الحياة وقيادتها دائما في أفاق جديدة. والعمل السياسي ليس فقط هو قيادة الجماهير بل هو أيضا تثبيت لدعائم مجتمعنا على أساس من الديمقراطية، والاشتراكية التي نبعت من واقعنا وأصبحت تعبيرا عن مستقبلنا. فالديمقراطية هي توكيد السيادة للشعب ووضع السلطة كلها في يده وتكريسها لتحقيق أهدافه، والاشتراكية هي الترجمة الصحيحة لكون الوحدة عملا تقدميا وهي إقامة مجتمع الكفاية والعدل.. مجتمع العمل وتكافؤ الفرص مجتمع الإنتاج ومجتمع الخدمات. إن الديمقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية، هي الحرية الاجتماعية، ولا يمكن الفصل بينهما أنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونها أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق في أفاق الغد المرتقب. إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق في ظل الرجعية كما أنها لا يمكن أن تتحقق في ظل دكتاتورية الطبقة الواحدة، لذلك يجب أن يسقط تحالف الإقطاع ورأس المال، وان يحل محله التحالف الديمقراطي بين قوى الشعب العاملة من الفلاحين والعمال والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية، باعتبار أن هذا التحالف هو البديل الشرعي لذلك التحالف الرجعي، وهو القادر على إحلال الديمقراطية السليمة محل ديمقراطية الرجعية. أعداء الشعب في الميثاق تشمل فئة أعداء الشعب العناصر التالية، المعزولون سياسيا بمقتضى القوانين المقررة لذلك، وكل من حوكم ثوريا أو أدين بأنه انفصالي أو متآمر أو مستغل، وكل من تعامل أو يتعامل في المستقبل مع التنظيمات السياسية الأجنبية فأصبح بذلك عميلا للقوى الأجنبية، وكل من عمل أو يعمل لفرض سيطرة الطبقة الواحدة على المجتمع. اشتراكية وسط بين الاستعمار والسخرة رأس المال في البلاد التي أرغمت على التخلف لم يعد قادرا على قيادة الانطلاق الاقتصادي في وقت نمت فيه الاحتكارات الرأسمالية الكبرى في البلدان المتقدمة اعتمادا على استغلال موارد ثروات الشعوب، ولم تعد تقدر الرأسمالية المحلية على المنافسة إلا من وراء أسوار الحماية الجمركية المالية التي تدفعها الجماهير أو أن تربط نفسها بحركة الاحتكارات العالمية وتقتفي أثرها وتتحول إلى ذيل لها تجر أوطانها وراءها إلى هذه الهاوية الخطيرة.