هناك مثل يقول: ليس هناك أغبى من يونانى غبى، فماذا يمكن أن نقول عن أهل دشنا، لا أعنيهم كلهم، ولكن أعنى الأثرياء منهم على وجه الخصوص، الذين أعطوا نقودهم بكل أريحية إلى محمد مصطفى الشهير «بالمستريح». ما حدث كان أكثر من مستوى الغباء العادى، ويقترب من درجة البلاهة، فلا جديد فى حكاية توظيف الأموال إلا النصاب والضحية، غير ذلك تتشابه التفاصيل إلى حد السأم، نصاب يعد الضحية بأرباح ضخمة تفوق قدرة أى مشروع على الكسب، ضمانه الوحيد هو كلماته المعسولة، لكنها توقظ كل غرائز الطمع والشراهة فى نفس الضحية فيصدقه ويعطيه كل ما يملك بلا ضمان، وبالفعل يأتيه الربح الطائل مرة أو مرتين، ثم يحدث التعثر والتأجيل وبعدها يختفى النصاب تماما وتضيع النقود، هل اختلفت التفاصيل عن كل مرة؟ كم تكررت وتبادلتها وسائل الإعلام؟ لكن الضحية لا تتمتع إلا بذاكرة الأسماك، يتعطل الذكاء وتتبدد خبرة السنوات ويضيع الحذر، ولا يطنّ فى الأذن سوى صوت الطمع، حدث هذا مع الريان والشريف والهدى وعشرات النصابين. لكن دشنا قدمت ما هو أغرب، فالمستريح بدأ مشواره للنصب من مكان غاية فى القرب من «قنا»، عندما فتح مجالا للاتجار فى كروت الشحن، كان مجرد وسيط فى بيزنس مغلق، ومع ذلك أقنع الكثيرين أن فى إمكانه إعطائهم أرباحا هائلة عندما يشاركونه، وجمع عشرات الملايين قبل أن يختفى، ثم ما لبث أن عاود الظهور فى المحافظة ذاتها، فى دشنا لا تبعد عن قنا إلا بضعة كيلومترات، بين الناس أنفسهم الذين يترددون بين المدينتين، وأخبارهم متصلة، وحوادث النصب معلنة ومسجلة فى دفاتر الشرطة، ومع ذلك ابتلع أهالى دشنا الطعم، التهموه، أخرجوا أموالهم المخزونة، وباعوا أراضيهم ومواشيهم، وأعطوها للمستريح الذى بلغ حصيلة ما جمعه من هذه المدينة الصغيرة وحدها 400 مليون جنيه، هل يمكن أن يخرج هذا المبلغ من واحدة من مدن الصعيد، ذلك الجزء الفقير المهمش المحروم من التنمية، الذى لا توجد فيه مدارس كافية ولا مستشفيات مجهزة ولا طرق معبَّدة بشكل جيد، الصعيد الذى تلتهم السيول بيوته وتهاجم الذئاب قراه، وتتحكم التقاليد البدائية فى طباعه، يوجد فيه كل هذا القدر من النقود الصامتة، لا أحد يفكر فى استثمارها بطريقة صحيحة، أو يساهم بجزء منها فى مشروع للتنمية، كأنهم كانوا ينتظرون هذا النصاب ليقدموها قربانا له. وتداعت الأمور، توالت اعترافات الضحايا الذين كانوا صامتين خجلًا أو يأسًا، فإذا المدن المصرية مليئة بعشرات النصابين، وآلاف الضحايا، ملايين تُدفع، لا تمر على البنوك، ولا تعلم عنها الضرائب شيئا، ولا توجد فى الدولة قنوات لاستيعابها، مليارات لا تعكس صورة الدولة المأزومة التى لا تكف عن التسول والبحث عن المساعدات، أموال كثيرة مخبأة داخل البلاد غير التى يتم تهريبها خارج البلاد، وكلها بعيدة عن أنف السلطة. هناك أسباب كثيرة لتفسير ظاهرة توظيف الأموال، أولها هى الشراهة الطمع والرغبة فى الكسب السهل، فخلف كل نصاب يوجد طماع كما يقولون، وثانيها هو الثقافة الدينية التى تعادى البنوك وتعتبر الأرباح التى تأتى من خلفها باعتبارها نوعا من الربا، كما أن رجال المصارف فى مصر يعانون من فقر فى الخيال، ولا يتمتعون بأى مواهب استثمارية، وثالثها لأنه لا توجد قنوات جيدة للاستثمار، فالحكومة لم تطرح أى مشروع جدى إلا مشروع قناةالسويس الجديدة، وخرجت من أجله المليارات بسرعة مذهلة، لأنه قُدم بشكل جيد وبأرباح معقولة، لكنه لم يكن إلا مشروعا أوحد، ورابعها هى قصور أجهزة الأمن والمتابعة التى لا تفكر فى حماية المواطنين، ترى لو كان هذا النصاب يعمل ضد النظام لا ضد الناس، هل كانوا سيتركونه ليعيث فى الأرض فسادا هكذا؟ أسباب كثيرة قد تكون صحيحة، ولكنها ليست السبب الذى أعتقد أنه الأقرب إلى الواقع، معظم هذه النقود غير شريفة، جاءت من طرق محرمة، الضحايا فيها ليسوا فقراء ولا بسطاء، لكنهم ينامون على مبالغ ضخمة لا يستطيعون الكشف عن مصدرها ولا إيداعها فى البنوك، القليل منهم قاموا بإبلاغ الشرطة، لكن الأغلبية فضلت الصمت والبقاء بعيدا عن الضوء، وهناك مثل إنجليزى يقول: ما يأتى بسهولة يذهب بسهولة، وهو يفسر تلك البساطة التى تخلوا بها عن تلك المبالغ الضخمة، كثير منهم يحتلون مناصب مهمة فى الإدارات الحكومية، واستغلوها للتربح وجمع الثروات، وغيرهم جمعوها من تجارة السلاح والمخدرات ومن تقسيم الأراضى والمضاربة بها، أموال كثيرة كانوا يبحثون عن وسيلة لتبييضها، أيضا الضحايا من العاملين فى دول الخليج، وهؤلاء أيضا وقعوا ضحايا لنصاب ذهب إليهم هناك، وقبض منهم بالدولار، ورغم اختلاف أنواع الضحايا فللمرة الأولى لم أشعر بالشفقة عليهم، بل أحسست بشماتة غامرة، لأنهم كانوا مثل الفئران ووقعوا فى المصيدة نفسها، إنهم لا يستحقون الشفقة فقط، ولكن يجب أيضا أن نحقق معهم لنعرف مصدر أموالهم، سيكشفون لنا عن خريطة كاملة لكل مظاهر الفساد فى السنوات العجاف التى عشناها، بينما هم يسلبون من شعب فقير ثروته الضئيلة، نريد أن نعرف من النصاب مَن بالضبط أعطاه هذه الأموال، لأنهم لا يقلون لصوصية عنه؟ إن دشنا لا تكشف لنا عن حقيقة وغباء بعض من أهلها فقط، ولكنها تكشف عن مدى غبائنا وتخلفنا جميعا.