الذى يتأمل حياة المثقفين والكتاب والمبدعين الذين تركوا آثارا بالغة الأهمية فى وجدان بلادهم، وجعلوا قسماتهم وملامحهم تظهر بقوة على وجوه العصر الذى عاشوا فيه، بل امتد إلى عصور تالية على حياتهم، سيندهش، ويظل مندهشا طويلا عندما يعثر على معنى ما فى نفسه، وإذ بهذا المعنى كان موجودا فى قصيدة ما، أو رواية قديمة، أو مسرحية من مسرحيات توفيق الحكيم أو أحمد شوقى مثلا، ويزداد هذا الامتزاج تأثيرا وحضورا عندما يحظى شاعر ما، بمطرب كبير، أو مطربة فريدة، وينشد له قصيدة، فتتحول فجأة القصيدة إلى مشاعر مصورة وراقصة، وهذا ما حدث بالضبط للشاعر إبراهيم ناجى، عندما أنشدت له أم كلثوم فقرات من قصيدة الأطلال. والناس يختصرون إبراهيم ناجى فى هذه القصيدة -الأغنية الخالدة، التى خلبت لبّ أجيال وأجيال، وتطوحت بها أم كلثوم أيما تطوح، ورقصت عليها كل القلوب المجروحة، والمتألمة وربما المهزومة: (يا فؤادى لا تسل أين الهوى كان صرحا من خيال فهوى اسقنى واشرب على أطلاله وأرو عنى طالما الدمع روى كيف ذاك الحب أمسى خبرا وحديثا من أحاديث الجوى لست أنساك وقد أغريتنى بفم عذب المناداة رقيق). وتظل القصيدة، والتى تصل إلى حد أن تكون بكائية فريدة فى العصر الحديث، وتتألق كوكب الشرق أم كلثوم فى ترديدها بصوت متعدد الطبقات والمستويات المختلفة، وكانت ألحان رياض السنباطى تفتح أبوابا هائلة للحس الملموس والمدرك. ومن أسعده زمانه، ودرس بعضا من قصائد ناجى فى المدرسة الثانوية، ستكون قصيدة «العودة»، الشمعة التى يستضىء بها التلميذ للتعرف على شاعر رقيق وحسّاس بدرجة كبيرة، وكنت أنا من بين هؤلاء المحظوظين الذين انكسرت قلوبهم مبكرا تحت سنابك حبيبة هنا، وصديقة هناك، لنترك على قارعة طريق الحب ننشد -فى تبتل مؤثر وعميق- أمام باب تلك الحبيبة الهاجرة والغادرة: (هذه الكعبة كنا طائفيها والمصلّين صباحا ومساء كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها كيف بالله رجعنا غرباء دار أحلامى وحبى لقيتنا فى جمود مثلما تلقى الجديد أنكرتنا وهى كانت إن رأتنا يضحك النور إلينا من بعيد). كنا نحفظ تلك القصائد، ونناقشها فى جلساتنا الصبيانية البعيدة، ونتأمل ذلك العصر الرومانتيكى الذى أبدع تلك القصائد الفاتنة التى تقدر على القفز على الأسوار الزمنية، لتترك ظلها على أجيال متعاقبة، وذات وجوه ومستويات من الذوق مختلفة إلى حدّ التناقض، ولكن يظل الشعر والفن عموما جامعين ومعبرين عن ذائقة جمعية تتواصل فى كل الحقب، وهذا ما يعطى صفة الخلود والسرمدية للمتنبى ورامبو وعنترة بن شداد وفرلين وبريخت وبابلوا نيرودا وأم كلثوم وسيد درويش وفاتن حمامة وكثيرين رسخوا فى وجدانات عصور وعصور. ودوما يرسم القارئ أو المتلقى لهذه الظواهر الفنية صورا أسطورية متعددة ومتخيلة لمبدعى القصائد والأغنيات العظيمة، ويظل هذا المتلقى متشبثا بتلك الصورة، ولا يستطيع قبول غيرها، وأتذكر هنا عندما ذهبت إحدى المعجبات بكتابات إبراهيم أصلان لزيارته فى مكتبه بجريدة «الحياة» 9 شارع رستم بجاردن سيتى، وكانت مفتونة به، وكانت تطلق عليه «الرجل البرتقالى»، وبعد حوار طويل وممتع بينهما، فاجأته بملاحظة أنها لم تتوقع أنه وصل إلى هذا العمر الذى يبدو عليه الآن، وأفصحت بأن كتاباته لا تنم عن ذلك إطلاقا، وعند ذلك أجابها إبراهيم أصلان بفطنته وخفة ظله، وقال لها إنه حاول أن يوقف عمره عند لحظة معينة فى حياته، ولكن آلة الزمن -بتعبير كوكتو- جبّارة وقهّارة، وهى الوحيدة التى تأمر فتطاع. ومن بين هذه الصور الطريفة التى لا تنفى ولا تؤكد، ربما تصدم القارئ الذى رسم صورة ما لإبراهيم ناجى، هذه الصورة التى أفصح عنها المخرج والكاتب المسرحى زكى طليمات، فى سلسلة حلقات كان يكتبها وينشرها فى مجلة «الكواكب» تحت عنوان «عندما قابلتهم لأول مرة»، وكان هذا المقال المنشور فى 14 أبريل 1953، عن إبراهيم ناجى، وعنوانه «الشاعر الذى كان يكره النوم». فى هذا المقال يكتب طليمات عن إحدى صالات الرقص التى كان يذهب إليها ليستعيد بعضًا من توازنه، وكان هناك يتناول بعض المشروبات التى تساعده على التفكير والتأمل، وإذ وهو فى هذه الحالة، وبين الصخب والضجيج الذى تصنعه جوقات المرح الليلية، التقطت عيناه زحاما ما بالقرب من إحدى الترابيزات المجاورة، وحاول أن يلقى بأذنه إلى تلك الترابيزة، فاستمع إلى صوت رقيق يقول شعرا فى طريقة حالمة، وعندما حاول أن يتبين مَن ذلك الحالم الذى ينشد الشعر فى مكان ليس له أدنى علاقة بالشعر، فلم يدرك سوى صلعة كبيرة تطل عليه من هذا الزحام. ولكن بعد انقضاء ذلك الزحام، راح طليمات ليعرِّف نفسه لهذا الشاعر الذى يعرفه اسما، ولكنه لا يعرفه شخصيا، وكذلك ناجى كان يعرف طليمات من خلال المسرحيات التى يخرجها، وتبادلا أطراف الحديث، وكان ناجى يحاول أن يعالج قلوب الفتيات المنكسرات حبا، بصفته الطبيب الوحيد فى صالة الرقص الرخيصة، ولكن الفتيات لا يعطين له بالًا، وينطلقن ضاحكات مرحات بائسات إذا صح المزج بين كل هذه الصفات. وفى آخر السهرة اصطحب طليمات إبراهيم ناجى إلى منزله، ولكن الشاعر ظل ساهرًا يشاغب أطياف قصائده، وعندما طلب منه طليمات النوم، قال له: «الشاعر لا ينام أبدا.. حتى لو رقد جسده وامتد على سرير، لكن حوّاسه ومشاعره تظل مشرعة دوما»، وعندما سأله عن أسرته، عرف أنه متزوج، وله طفلتان، وكان يقول لأسرته إنه يمارس عمله فى المستشفى طوال الليل. هذه صورة من آلاف الصور لهذا الشاعر العبقرى، ربما تقرّبنا منه بشكل أو بآخر.