خبران تداولتهما وسائل الإعلام خلال الفترة الأخيرة، يحتويان على تحول مهم فى الشأن الداخلى المصرى فى ما لم تشهده البلاد طوال عقود طويلة، إن لم يكن محتواهما غير مسبوق على الإطلاق فى التاريخ المعاصر. هذان الخبران أولهما أن تحقيقات النيابة أنجزت بمهنية عالية مهمة اكتشاف ضابط الشرطة، الذى أطلق الخرطوش الذى تسبب فى وفاة الناشطة السياسية شيماء الصباغ فى أثناء مسيرة سلمية، قام بها بعض أعضاء حزب التحالف الشعبى الاشتراكى لوضع باقة من الزهور على النصب الموجود فى ميدان التحرير فى ذكرى الانتفاضة الشعبية فى 25 يناير 2011، أما الخبر الثانى فكان إحالة ضابطَى الأمن الوطنى اللذين اختطفا محاميا، وعذَّباه فى قسم المطرية حتى الموت، إلى محكمة الجنايات. شىء طبيعى أن يحاسب من ارتكب عملا إجراميا حتى لو كان ضابط شرطة، وفى ما سبق ما أكثر «الطرمخة» على جرائم لضباط وأفراد من الشرطة ارتكبت فى حق المواطنين، ووصلت من عنفها إلى حد القتل وإزهاق الأرواح، وما أشبه الليلة بالبارحة، فمَن مِن المصريين ينسى «أيقونة يناير» خالد سعيد، الذى قتل بدم بارد، وأهاجت مشاعر المصريين محاولة التعتيم على قتله، وأصبح جزءا مهما من المخاض والزخم السياسى قبل الخامس والعشرين من يناير، لأن الكيل كان قد فاض من تكرار عمليات الاعتداء الغاشمة من أفراد الشرطة على المواطنين داخل الأقسام وخارجها، وهو ما بدأ يحدث أخيرًا ثانية من تجاوزات مماثلة، لم يعد المجتمع قابلا بعدُ حركتى انتفاض عظميين للسماح بهما، وهذا يعنى أن عودة ممارسة الانتهاكات ينذر بأخطار جمة تهدد الاستقرار، لكن ما يدعو إلى الاطمئنان أن النيابة العامة تؤدى الدور المنوط بها دون أى حسابات سياسية أو انحيازات، وهذا دور وطنى ومهنى بالغ الأهمية ينشر مناخا من الثقة والاطمئنان، ومن المؤسف أن النيابة فى عهود سابقة لم تكن بأمانة ونزاهة الأداء الحالى، الذى سيتحول باستمراره إلى عاصم للمجتمع من مخاطر العنف الأهلى والقلاقل. فى خطوة أخرى أصدر النائب العام تعليماته بخروج حملات مفاجئة من أعضاء النيابة العامة للتفتيش على أقسام الشرطة والسجون، وسجلت النيابة عدة مخالفات تتعلق بزيادة الأعداد فى غرف الحجز وقلة التهوية داخل هذه الغرف، وأشارت تقارير النيابة إلى ارتفاع كثافة أعداد المحتجزين داخل الحجز، بما لا يتناسب مع مساحته الصغيرة فى أغلب أقسام الشرطة، مما يعرّض حياة المحبوسين للخطر، وأوصت تقارير النيابة بضرورة أن يوجد طبيب داخل كل قسم شرطة لتوقيع الكشف الطبى على المحتجزين فور تعرضهم لأى أزمات قلبية أو مشكلات صحية لتحاشى حالات الوفاة، التى تحدث داخل أقسام الشرطة لأصحاب المشكلات الصحية الحرجة، وضرورة توفير أماكن احتجاز ذات مساحات كافية تتناسب وأعداد المحتجزين. لقد كانت أقسام الشرطة فى ما مضى ممالك وإقطاعيات خاصة، يديرها أصحابها نزولا على أوامر الجهات العليا من قيادات شرطية وشخصيات نافذة فى الواقع السياسى، وكان المواطنون الغلابة يخشون الذهاب إلى قسم الشرطة للشكوى أو قضاء مصلحة، وانتشرت بينهم مقولة فحواها أن الداخل فى أقسام الشرطة أو المستشفيات مفقود، وأن الخارج منها مولود، وهكذا بدلا من أن يكون قسم الشرطة ملاذا لرقيقى الحال من المواطنين، أصبح مكانا للرعب والإهانة، ومن المؤسف أن هذا السلوك الذى يفتقد إلى الأخلاق والمهنية ما زال ساريا إلى اليوم، وهذه أمور يصعب على النيابة العامة أن تقوم بالسيطرة عليها، لأن البسطاء من المواطنين الذين يخافون من أقسام الشرطة، ويحجمون عن الذهاب إليها، ويتعرضون للمهانة والإذلال إن هم ذهبوا إليها، هؤلاء المواطنون غير المعترف بهم شرطيا لا يعرفون أن من حقهم الذهاب إلى النيابة، وتقديم شكوى فى المسؤول فى قسم الشرطة، الذى أحجم عن أداء واجبه المكلف به من الدولة نحوهم، وفى الغالب فإنه لم يحترمهم وتعمد الازدراء بهم، واحتقارهم، كما أن هذا المواطن المسكين لا يعرف بوجود ديوان للشكاوى فى وزارة الداخلية، وبالتالى يبقى الحال على ما هو عليه لأن الإرادة السياسية لم تفطن بعد إلى هذه الأوضاع أو هى مشغولة بأولويات أخرى، بينما جهاز الشرطة ذاته لا يكترث بأوضاع كثيرة تعتبر فى جوهرها مزالق خطرة على الأمن القومى لا تقل فى تراكمها على المدى البعيد عن مخاطر الإرهاب. لا جدال أن فصل السلطات فى المفهوم السياسى للدولة المعاصرة كان الهدف الأساسى له عدم الافتيات على حقوق المواطنين وحماية الدولة من السيطرة المطلقة لنظام الحكم، وكلما كان الفصل بين السلطات حقيقيا وعميقا كانت العافية السياسية للدولة قوية ومناعتها الداخلية قوية قادرة على مواجهة أى تحديات تستجد فى الواقع السياسى والاجتماعى، لأن تغول أى سلطة، وبالتحديد التنفيذية، يؤدى إلى نتائج كارثية، لهذا يمكن القول إن قرارات النيابة العامة الأخيرة تؤسس فى حال استمرارها على كل أصعدة مؤسسات الدولة لأوضاع تثبيت دولة القانون، التى تبث الثقة لدى المواطنين فى دولاب العمل الوطنى الداخلى وأمام الرأى العام فى الخارج، كدعامة للاستثمار والسياحة وتعزيز هيبة الدولة.