تحظى حكومة المهندس إبراهيم محلب بالشكر والمدح على مجرد الشروع فى أول خطوة تتخذها فى مشروع ما، وذلك على سبيل التشجيع علَّها تُسرِع الخطى وتتحمس لمشروعات أخرى. ولكنها، فى بعض المرات، تفاجئ من شجعوها بالتوقف عن المضى قدما لأسباب غامضة، حتى قبل منتصف الطريق، فيتهدد المشروع بالفشل التام، أو بالنكوص والعودة إلى ما كان أو أسوأ! خُذْ عندك آخر واقعة، عندما استجابت الحكومة لمطالب وشكاوى الكثيرين، ونسقَّت مع محافظة القاهرة، فى التصدى للتواطؤ ضد القانون فى منطقة البورصة بوسط البلد، التى أنفقت عليها الدولة مبالغ طائلة بهدف أن تكون مخصصة للمشاة، إلا أن عدداً من أصحاب البيزنس الساعين إلى المكسب السريع، مع التنصل من أى أعباء، أستولوا على مسارات المشاة واعتبروها امتداداً للمقاهى التى أقاموها دون ترخيص، وقد أدَّى الصمت الرسمى أمام انتهاك القانون بهذا الشكل السافر إلى تشجيع المخالفين، وإذا بالأمر يستفحل أكثر بالتوسع المُستفزّ للموائد والمقاعد فى الجوار، ثم المزيد من مشروعات المقاهى الجديدة، أيضاً بلا ترخيص، ولم يعد هناك أى منطق فى أن تنشأ مقهى فى محل لا يتجاوز بضعة أمتار لا تتسع لتخزين أدوات العمل بعد الإغلاق! وغير ذلك من مخالفات يصعب حصرها! وبالفعل، لم يعد هناك موطئ لقدم، حتى أن بعض رواد المقاهى صار عليهم أحياناً القيام ورفع مقاعدهم للسماح لمن يريد المرور! أخيراً قامت الحكومة والمحافظة، مع كل الشكر، بتطبيق القانون وإغلاق هذه المخالفات، ووضع حراسة من قوات الأمن تتابع الموقف. ولكن، ما حدث بعد هذا هو العجب العجاب! فقد جرى، فوراً وفى اليوم التالى، احتلال المنطقة بالكامل بالسيارات وجعلها مكاناً دائماً لركن السيارات، بعضها من السكان وبعضها من معارض السيارات! وضاقت مسارات المشاة بأكثر مما كان أيام المقاهى، ثم ظهر أطفال، من حيث لا يحتسب أحد، من السكان ومن مناطق مختلفة، يلعبون الكرة بلا توقف! والغريب أن يجرى كل هذا أمام أفراد الشرطة الموجودين بالفعل، والذين يبدو عليهم أنهم لم يتلقوا توجيهات، أو تلقين، عن معنى المهمة المنوط بهم تنفيذها! بل إن رجال الشرطة الآخرين المسؤولين عن ضبط المرور ومنع ركن السيارات فى الشوارع المجاورة، بعد بدء العمل فى جراج التحرير، وحرصهم على وضع الكلبشات للسيارات المخالفة على بُعد أمتار، لا يتخذون أى إجراء مع هذا العدد الهائل من السيارات أمام أعينهم! ثم إن جميع مداخل المنطقة مغلقة تماماً بسلاسل محكمة الإغلاق بأقفال لا يمكن فتحها إلا من القائم على أمرها. بما يعنى أن بعضهم يفتح الأقفال ويغلقها لبعض السيارات حسب ما يرى، ويوفر لها رَكناً خارج النظام الرسمى لم يكن متاحاً من قبل، مقابل أن يحصل على نفحات فى جيبه الخاص، فى إطار ما يُعرَف بالفساد الصغير! حسناَ، الموضوع، بالتبسيط المُمل، كالتالى: كان أصل المشكلة هو أن المنطقة المُخصَّصة للمشاة جرى احتالها بالكامل بالمخالفة للقانون، مما أدى إلى منع المشاة من الاستفادة منها، بما يعنى هدر أموال طائلة بعد أن أُحيِل بين المواطنين وبين إمكانية الاستفادة من المنطقة فى الغرض المحدد، وكان على المسؤولين أن يعيدوا الأمر إلى نصابه. وأما المسألة التفصيلية، فهى أن المقاهى هى التى كانت تحتل المنطقة بالمخالفة للقانون. وكان الحل المنطقى هو تطبيق القانون على المخالفين، للهدف المهم الذى هو استعادة المنطقة لإمكانية الاستفادة منها طبقاً للهدف المحدد. أزيلت المقاهى. شكراً. ولكن جاء غيرهم واحتلوا المكان! وكانت المفاجأة أن من أزالوا المقاهى يتفرجون على المخالفة الجديدة وضميرهم مستريح أنهم نفذوا ما طُلِب منهم بالحرف! أسئلة منطقية: لماذا لم يتخذوا إجراء ضد المخالفات المستجدة؟ هل هم يخشون إذا فعلوا أن يُؤاخَذوا على الاجتهاد؟ هل هم فى حاجة إلى تكليف خاص بمهمة جديدة؟ هل يدركون أن عليهم إبلاغ المسؤولين عن المخالفة الجديدة؟ هل يعلمون حقاً أنها مخالفة؟ وهنا يقفز السؤال المنطقى: هل جرى شرح معنى وهدف مهمة إغلاق المقاهى المخالِفة لمن قاموا بالتنفيذ؟ هل هناك عمد أن تعمل أجهزة التنفيذ مثل الروبوت بلا عقل ولا ابتكار ولا قدرة على الاستفسار أو الاقتراح؟ أم هو عدم إدراك من الكبار عن أهمية أن يعرف رجالهم الغرض من أى مهمة يُكلَّفون بها؟ أم ماذا؟ وأما الموضوع الكبير فهو أنه ينبغى أن يُحسَب حسابُ النتائج والتبعات لكل قرار، خاصة ما يمسّ قطاعات من المواطنين لم يحظوا قط باهتمام الدولة وصار عليهم أن يحفروا فى الصخر من أجل لقمة العيش. وكان من الأخطاء الكبيرة للمهندس محلب أنه لم يلتزم بالوعد الذى قطعه على نفسه للباعة الذين كانوا احتلوا وسط البلد بالكامل منذ الفوضى التى أعقبت ثورة يناير وما بعدها. تعهد المهندس محلب أن يوفر لهم موقعاً بديلاً فى حال مغادرتهم إلى مكان مؤقت، وقد التزموا هم بالجانب الخاص بهم وغادروا المنطقة، ولكن المدة التى حددها انتهت ولم يتحصلوا على الوعد! كان يمكن للمركز التجارى، الذى كان مأمولاً أن يكون مستقراً للباعة، أن تنتقل إليه أيضاً المقاهى المزالة من وسط البلد، وكان يمكن لهذا أن يُشجِّع على الإقدام لعلاج مناطق أخرى كثيرة صارت نموذجاً حياً يسخر ممن يتحدث عن وجه حضارى للعاصمة، قبل أن تكون انتهاكاً للقانون، وكان يمكن لهذا النجاح أن يفتح باباً للأمل فى علاج مشكلة احتلال الرصيف ونهر الطريق فى عموم البلاد! ولكن المشروعات الجميلة تتعثر لأسباب غامضة!