انتعش الأمل لأول مرة بإمكانية حل مشاكل الباعة المقيمين، الذين كانوا جائلين فيما مضى، لأن وسط البلد هو الجزء الأعقد من المشكلة، وحل عقدة هذا الجزء يشجع على المضى فى استكمال المهمة، ولكن وسط البلد فى نفس الوقت ليس سوى مجرد نتوء بارز لجذر عظيم منتشر فى عموم البلاد من أقصاها إلى أقصاها لا تخلو منه مدينة واحدة! ومن حق المهندس محلب أن يُشكَر على دوره الشخصى، لأنه لم يترك الأمر للمسؤولين المباشرين، وإنما تدخل بنفسه وكان أداؤه واضحاً، وقد أبدى أنه يدرك مدى تعقيد المشكلة وتشابكات المصالح وتضاربها بين عدة أطراف، كما أثبت أن لديه مهارات اكتسبها من عمله الطويل مع العمال طوال تاريخه المهنى كمهندس، يحدثهم بلغتهم ويصبر على إقناعهم، وفى الأخير، وعندما يتأكد أن الشكوك لا تزال تساورهم، يبرم معهم الاتفاق على العيش والملح، لأنه يعلم أن هذا باعث طمأنينة لهم! ومع تباشير الحل الذى كان يبدو مستحيلاً حتى أيام قليلة، صار طموح الرأى العام أكبر فيما هو آت، خشية ارتداد الأوضاع إلى ما كانت عليه، ولعل التزام كل أجهزة الدولة بالاتفاق المبرم هو أهم البنود، ولا فكاك من وجوب انجاز هذا التعهد فى الموعد المضروب، مع وجوب فرض الرقابة على الأماكن التى جرى إخلاؤها حتى نضمن أن يتحقق على الأرض الهدف من نقل الباعة، وذلك بأن تفرض الأجهزة المعنية الانضباط، الذى كانت تنعم به القاهرة منذ قرن من الزمان، والذى كان محققاً ليس فى وسط البلد فقط وإنما فى جميع الأحياء حتى الشعبية منها، عندما لم يكن يجرؤ، ولا حتى يفكر، صاحبُ محل على عرض بضاعته أمام المحل، ولا على إخراج الكراسى على الرصيف لاستقبال زواره وضيافتهم بالمشروبات من المقهى المجاور، ولا وضع السماعات العملاقة ليفرض ذوقه فى الفنون على المحلات المجاورة التى تذيع هى الأخرى ذوقها الخاص بها، ويشكل كل هذا عدواناً رهيباً على المارة وعلى السكان وأصحاب وروّاد المكاتب والعيادات المجاورة! وأما الأماكن المخطط إنشاؤها ليستقر بها الباعة، فليتها تكون نقلة حضارية حقيقية لتصبح نموذجاً يأمل الباعة الآخرون المزمع اتباع نفس الإجراء معهم أن يكون لهم مثله، حتى مع تواضع المستوى المتوقع والطبيعى مقارنة بالمولات الفخمة، فإنه ينبغى أن تتوافر فيها شروط الراحة لكل من الباعة والزبائن، أولاً بتوفير جراجات تحت الأرض، وإلا دخلنا فى مأساة ركن السيارات، مع الانتباه إلى أن عوائد الجراجات باتت مجزية كمشروعات مستقلة خصوصاً فى مثل هذه النشاطات، وعلى أن تكون المساحات بين المحلات رحبة حتى لا يعانى الناس من الاكتظاظ القاتل، مع لزوم فرض رقابة صارمة على الانفلات بالضجيج وبعدم الالتزام بشروط الصحة والسلامة والنظافة، وهى من أخطر مساوئ التجربة البشعة فى وسط المدينة. ومن المفيد أن يكون فى هذه المنشآت مقاه ومطاعم، وهى أيضاً مشروعات مربحة تضمن زبائنها من جمهور المتسوقين، وتزيد من فرصة مكوث الزبائن فترة أطول تفيد المحلات الجديدة فى فرص أكثر للبيع. إن الكلام عن بُعد الأماكن البديلة للباعة، سواء فى الترجمان أو وابور الثلج، والمخاوف من أن هذا يبعدهم عن الزبائن، كلام غير صحيح، فالزبائن يأتون من آخر المدينة، بل من مدن أخرى، قاصدين وكالة البلح، أو سيتى ستارز، مع الاختلاف الكبير بين نوعية الزبائن فى السوقين الكبيرين، وذلك للسُمعة الطيبة التى رسخّها التجار لأنفسهم، هنا وهناك، حتى لم يعد الزبائن يحسبون الجهد المبذول فى الذهاب. وهذا دور الباعة الجدد فى أماكنهم الجديدة، أن يبنوا الثقة مع الزبون الذى كان يقصدهم عندما كانوا فى وسط البلد. ولا يمكن إغفال المكاسب الجمة التى ستعود على الدولة من هذه المشروعات، ليس فقط بالقيام بمسؤوليتها تجاه مواطنيها، من الباعة ومن الزبائن، ولكن أيضاً بمحاربة خطوط تهريب السلع التى وجدت أفضل مناخ لها فى البيع فى الشارع خارج الرقابة، كما سوف تجنى الدولة العوائد المادية من البنود المالية التى سوف يتلزم بها هؤلاء الباعة لأول مرة فى تاريخهم، عندما يدفعون رسوم التسجيل، والإيجارات أو أقساط الملكية، وتكلفة الكهرباء المستَهلَكة، والضرائب على الدخل وعلى المبيعات، والتأمينات الاجتماعية للعاملين..إلخ إلخ هذه الجوانب جديدة على هؤلاء الباعة، ويُستحسَن أن تهتم الحكومة بوضع برامج لتدريبهم ونشر الوعى فى صفوفهم عن ضرورة الالتزام بمسك الدفاتر وتكليف محاسبين بوضع ميزانياتهم، مع شرح الجزاءات القانونية التى تُفرَض عليهم فى حالة تخلفهم عن أداء استحقاقات الدولة. وهذا حافز للحكومة على الاستمرار فى استكمال هذا المشروع الجبار لتجميع كل الباعة فى عموم البلاد فى أماكن شبيهة، مع ضرورة الاهتمام أيضاً بمراجعة الجدوى الاقتصادية لمثل هذه المنشآت، مع الاستفادة من خطأ التسرع فى تخصيص قطعة أرض ثمينة شبيهة بوابور الثلج التى كان يمكن أن تفيد أكثر كمشروع سياحى ضخم! وإلا صارت الدولة تتكفل بإنجاح مشروع التنمية الصينى بالصرف، بدلاً من الصين، على توفير منافذ توزيع منتجاتها! الخطوة التالية فى وسط البلد، هى مواجهة هذا الاحتلال الصارخ للأماكن التى تكبدت فيها الدولة مبالغ هائلة لتخصصها للمشاة، فإذا بها صارت نهباً مستباحاً لأصحاب المقاهى الذين تحققت لهم السيطرة الكاملة على كل شبر فى منطقتى التوفيقية والبورصة بل والامتداد إلى الشوارع المتاخمة، حتى إن أحد المطاعم الشهيرة سمح لنفسه أن يمد موائده فى المساحة المخصصة للمشاة على مساحة لا تقل عن ضعفى مساحة مطعمه الكبير، وكل هذا مع الصمت المُشجِّع من الجهات المسؤولة طوال السنوات الماضية!