كتبت- رحمة ضياء خطى متعجلة، ووجوه قلقة، وأيادي تحمل بحرص حافظات الأوراق الرسمية، فورقة واحدة تغيب يعني أن مصالحهم التي سافروا في سبيل إتمامها من محافظات مختلفة لن تنقضي اليوم، وسيكون عليهم إعادة الكرة مرة ثانية. تتمهل الخطى لحظات؛ يتأمل أصحابها المبنى الضخم المكون من 13 طابقا، والذي يشغل مساحة 28 ألف مترا، ويمتد لارتفاع 55 مترا، قبل أن يعود مستوى نظرهم إلى بوابة المتاهة المكونة من 1356 حجرة، ومع عبور بوابة "مجمع التحرير" تبدأ رحلة "السبع دوخات"، التي عبر عنها فيلم "الإرهاب والكباب"، الذي تدور أحداثه داخل المجمع، بشكل كوميدي؛ ففي بداية الفيلم يسأل الفنان "عادل إمام" الذي جسد شخصية "أحمد"، رب الأسرة الذي ذهب إلى المجمع ليقوم بإجراءات نقل طفليه من مدرسة بعيدة إلى آخرى قريبة من المنزل، عن مكان الحجرة رقم "717" بينما يسير بقوة الدفع وسط جمع كبير من المواطنين الذين جاءوا لقضاء مصالح مختلفة، فيرد عليه أحد الأشخاص قائلا:" تصدق بالله أنا بقالي شهر باجي كل يوم عشان أعرف أخشها ومبعرفش"، ثم يقابل نفس الشخص بعد أسبوع حين يذهب مرة ثانية للمجمع بعد محاولته الأولى غير المجدية، ويجده لا يزال يحاول الوصول إلى الغرفة! الخريطة التوضيحية لطوابق المجمع في مدخل المجمع ستجد حجرتين جهة اليمين يفصل بينهما سلم المجمع الرئيسي، يتبعان للقطاع الخاص، تعلوهما لافتة "استوديو مصر"، حيث يمكنك الحصول على صور شخصية فورية، وفي الناحية المقابلة المصاعد، التي تحتاج للوقوف في صف طويل للوصول إليها، كما يتواجد داخل المجمع 4 حجرات تتبع لقطاع البنوك "البنك الأهلي". "مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية" تحتل الثلاثة طوابق الأولى، وهي الأكثر تأمينا بين طوابق المجمع، من قبل عناصر الشرطة وأفراد الآمن، الذين يتولون مهمة تفتيش كل من يعبر البوابات الإلكترونية. يتكدس بداخلها من يرغب استخراج جواز سفر عادي أو بدل فاقد لسفرة عاجلة، و من يرغب في تقديم طلب هجرة لسفرة بلا عودة، من يسعى لمنح زوجته الأجنبية الجنسية المصرية، ومن تسعى لنقل جنسيتها المصرية لأبنائها، من يقدم طلب للحصول على جنسية أجنبية أو من ترغب في استرداد جنسيتها المصرية التي فقدتها بالزواج من أجنبي، وغيرهم من أصحاب المصالح المتعلقة بالجوازات والهجرة والتأشيرات والجنسية. الطابع الرابع يضم مديرية القوى العاملة حيث تمنح تراخيص الأجانب، كما تضم النيابة الإدارية المحلية قسم أول، وديوان عام وزارة الشئون الاجتماعية. تتواجد مديرية الشباب والرياضة بالطابق الخامس وإدارة عابدين التعليمية، أما السادس فيضم مديرية الطرق والتنقل والاسكان والمرافق ومشروع إدارة المحاجر، ويتوافد على الطابق السابع طلاب البعثات حيث تتواجد إدارة البعثات التعليمية. من بداية الطابق الثامن الذي يتواجد فيه النيابة الإدارية المختصة بميزانية وزارة التربية والتعليم، تبدأ أعمال إصلاحات داخل المجمع، وتعود أغلب حجرات الطوابق المتبقية لوزارة الداخلية التي تشغل 380 حجرة داخل المجمع موزعة بين مباحث الأموال العامة والتهرب الضريبي ورعاية الآحداث والآداب، الموجودة بالطابق ال 13، وغيرهم من الإدارات، فيما تشغل وزارة العدل 299 حجرة، ووزرة التضامن الاجتماعي 119 حجرة، والتعليم العالي 17 حجرة، ومحافظة القاهرة 390 حجرة، والمصرية للاتصالات حجرتين، إضافة لحجرات قطاع البنوك والقطاع الخاص، بحسب التصنيف الذي قدمته "منطقتي" لحجرات المجمع الذي يعمل به نحو آلاف موظف ويزوره بشكل يومي نحو 25 ألف زائر، ناهيك عن باعة المناديل والأقلام وماسحي الأحذية الذين يتسع لهم جميعا طوابق المجمع، الذي صممه دكتور محمد كمال إسماعيل عام 1951، بحيث يبدو متعدد الأشكال حسب اتجاه نظرك إليه، فإذا نظرت له وأنت تقف قبل جامع عمر مكرم، سيبدو لك، كمقدمة سفينة على قدر كبير من الرشاقة، وإذا نظرت له من شارع الشيخ ريحان، أى إلى ظهر المجمع، سترى ما يشبه جزءا من دائرة، قمتها زاحفة نحوك، وإذا وقفت في منتصف الميدان، فإن المجمع سيتخذ هيئة القوس، مرنا وقويا.وقد تكلف إنشائه قرابة 2 مليون جنيه، وتم افتتاحه في العام التالي عام 1952. المجمع والثورة منذ اليوم الأول لثورة 25 يناير كان المجمع شريكا متواطئا في كل ما يدور من أحداث، بداية من اعتلاء القناصة لسطحه لاستهداف الثوار_ بحسب شهادات عدد منهم_، ثم انضمامه إلى صفوف المعتصمين، الذين بسطوا سيطرتهم عليه ومنعوا الموظفين من الدخول، للضغط على نظام مبارك والتعجيل برحيله. تجدد دور المجمع في كافة الموجات الثورية المتعاقبة أيام أحداث محمد محمود محمود ومجلس الوزراء، حيث شهدت ساحته الأمامية العديد من التظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي رفعت صورة الشهداء ومطالب الثوار المختلفة، وظل موظفوا المجمع يعانون من تبعات هذه الموجات الثورية ففي أحداث محمد محمود قالت الدكتورة نجوى خليل، وزيرة التأمينات والشؤون الاجتماعية وقتها، إنه تم تكليف الموظفين التابعين للوزارة بمجمع التحرير بوسط القاهرة بالعودة لإداراتهم بديوان عام الوزارة بالعجوزة، وذلك في حال تضررهم من دخان القنابل المسيلة للدموع التي تطلقها قوات الأمن في محيط ميدان التحرير. لم تمر الثورة على نظام الإخوان دون أن يكون للمجمع دورا بارزا فيها، حيث بسط المتظاهرون سيطرتهم عليه من جديد وأغلقوه في وجوه الموظفين في أعقاب مظاهرات 30 يونيو للمطالبة برحيل مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، كما رسموا عليه الجرافيتي للشهداء، وعلقوا على جدرانه لافتات" ارحل" و"الشعب خلاص أسقط النظام"، كما كتبوها بأقلام ضوء الليزر الأخضر على واجهة مجمع التحرير، وعلقوا علم مصر بطول المجمع بعد سقوط النظام الإخواني. بين الواقع والسينما ببراعة شديدة استطاع المخرج "شريف عرفة" أن ينقل صورة واقعية لما يدور داخل مجمع المصالح الحكومية المعروف ب"مجمع التحرير" في فيلمه "الإرهاب والكباب"، معبرا عن البيروقراطية التي يعاني منها زوار المجمع، الذين ينتمون لمحافظات مختلفة وجنسيات مختلفة، وتتجمع مصالحهم تحت سقف المجمع، منهم من يسعفه الحظ، وينجح في قضاء مصلحته من المرة الأولى فيخرج من البوابات ظافرا بورقة تحمل ختم النسر تشي بها ابتسامته الممتدة من الأذن للأذن، ومنهم من يخرج خائب الرجاء، يحمل فوق ظهره هم المشوار الطويل الذي سيقطعه للمرة الثانية وربما الثالثة والرابعة. كما نجح في نقل صورة واقعية للمشهد اليومي المتكرر داخل المجمع، حيث "التوهان" سيد الموقف، والباعة الجائلون المنتشرون في كل الطوابق لإمداد الزوار بالأقلام الجاف والمناديل وحافظات الأوراق البلاستيكية، وباعة الشاي، وحتى ماسح الأحذية، الذي يتخذ لنفسه مستقرا بالفعل داخل طوابق المجمع بعد أن يدفع ثمنه. دورات المياه التي تبدو في حالة يرثى لها، والتي كانت تدفع الموظف "مدحت" في الفيلم للخروج من المجمع والذهاب لأحد دورات المياه النظيفة في المباني المجاورة، ستتمثل أمامك بوضوح إذا دفعك حظك السيء لخوض هذه التجربة على أرض الواقع. حتى مشهد محاولة الانتحار من فوق سطح المجمع الذي أداه الفنان "علاء ولي الدين"، نفذه مسجل خطر، يبلغ من العمر 66 عاما، كان متهما في قضية أموال عامة، في مطلع عام 2015، قافزا من الطابق التاسع بمبنى مجمع التحرير ليتوفى على الفور. كل شيء قدمه "شريف عرفة" ستجده حاضرا بما في ذلك حالة الضغط، لكنها نادرا ما تولد الانفجار على أرض الواقع كما يحدث في السياق الدرامي، فالكل مضطر للتحمل في سبيل إنهاء مصلحته والخروج من متاهة المجمع.