كان أبو الطيب جالسًا فى حضرة كافور، سيتحول اسمه فى ما بعد إلى المتنبى، سيعلو صيته، وتنتشر أشعاره وتبقى، ولكن مصيره لن يتغير كثيرا، ولكنه فى هذه اللحظة كان جالسًا كما تعوّد أن يفعل فى حضرتهم جميعا، حكام من أشتات الأرض، أمراء منشقّون، قادة عصاة، وملوك يتظاهرون بالشرعية، كلهم لا يستحقون وقفته، ولا العروش التى يجلسون عليها، فليتلو الشعراء جميعا قصائدهم وهم وقوف، أما هو فسيبقى قاعدا، لن يبالى بالسلطان الأسود الذى يجلس أمامه وهو ينظر إليه شذرًا، وعلى وجهه ابتسامة غاضبة، يقول له: تقدم يا أبا الطيب وقل ما لديك من شعر. يحرك شفتيه الغليظتين، وتظل شفته العليا مقلوبة، لا تستقيم أبدا مع ملامح وجهه، يهز رأسه فتهتز الحلقة المعدنية التى ما زالت تثقب أذنيه، علامة عبوديته، ويحرك قدميه الضخمتين ببطء فتبدو الشقوق فى جلدهما غائرة، آثار باقية من أيام الكدح والعمل فى سوق الزياتين، عبث القدر وعشوائية الأيام هى التى جعلته يستوى على عرش هذا البلد الكبير، من السخرية أن يخاطبه بهذه اللغة العربية المتكسرة، يطلب منه شعرا لن يفهم نصفه، يقول أبو الطيب فى اعتذار كاذب: فهل تأذن لى يا مولاى أن أقول الشعر وأنا جالس فى مكانى. محاولة أخيرة للمّ شمل نفسه، وإبقاء مسافة كافية بينه وبين كافور. كان كافور يعمل حمّالا عند بائع للزيت منذ أشهر قليلة، لولا أن حاكم مصر ابن طغج الإخشيدى رآه وهو يرفع وحده برميلا ضخما ممتلئا، أدرك أنه سيكون حارسا جيدا، سيحميه بجسده الضخم من أى محاولة للاغتيال، اشتراه من بائع الزيت، أصبح قريبا منه، ارتفع طبقات عديدة فوق رؤوس بقية القادة، نحّاهم جميعا حتى أصبحت قامته فى موازاة العرش، وتدخل الموت ليأخذ الملك الإخشيدى فى وقت غير مناسب، على الأقل قبل أن يكبر ولى العهد ويصبح مؤهلا ليتولى العرش، وتدخل كافور ليحمى عرش ابن سيّده من كل الطامعين، ولكنه لم يستطع أن يحميه من أطماع نفسه، وها هو يجلس الآن حاكما مطلقا على ملك شاسع يمتد من حدود الشام حتى جبال اليمن، كعادة مصر يؤول ملكها الذى لا صاحب له من حاكم تركى إلى عبد حبشى دون أى اعتراض، يتقبله الناس الطائعون بدرجة البلاهة، يزرعون ويحصدون على ضفاف الوادى ويدفعون الضرائب لأى شيطان ما دام جالسا على العرش. أىُّ قدر عابث يعلو بهذا العبد حتى تلامس رأسه السماء، ويظل هو، أفضل مَن نطق بلسان شياطين وادى عبقر، مغروس القدمين فى التراب، وها هو يطلب منه الاقتراب حتى يشم رائحة عَرقه، رائحة زنخة لم تفلح العطور فى إخفائها، رغم ذلك كله يبدأ أبو الطيب فى قول الشعر، لا يفعل أكثر من أنه يمدح ذاته التى تستحق كل المديح، رغم أن المأفون كافور يعتقد أنه يمدحه هو، يهذى بصوت عال حتى يفرغ كل ما فى جوفه من شعر، المنحة التى ضن الله عليه بكل شىء ولم يهبه إلا إياها، يهز العبد الملك رأسه كأنه يعى ما يُقال أمامه، ولكنه فى الحقيقة لا يفهم كل هذا الكم من المعانى المتشابكة، ما يهم هنا أن شاعر بنى حمدان قد هرب من حلب ولجأ إليه، غيّر قوافيه من أجله، وجلس أمامه يسترضيه ويتوق لعطاياه. يتوقف أبو الطيب عن قول الشعر، يلهث وقد احتقن وجهه، يظل كافور يحدق فيه ولسانه عاجز عن قول الكلمات التى يجب أن تُقال فى هذه اللحظة، لم يكن يحب كثيرا أن يهب شيئا، ولكن كان عليه أن يفعل كما يفعل كل الأمراء، يقول فى النهاية: اسألنى، اطلب ما تريد، يقول الشاعر على الفور: فقط ما وعدتنى به يا مولاى قبل أن آتى إلى هنا. ينظر إليه كافور مندهشا: أى وعد هذا؟ وهل يملك هذا الشاعر المطارَد وعدا يقيّد حاكما مثله، يقول له: سأهبك دارا جديدة تشعرك بالأمان، يقول أبو الطيب: لا حاجة لى بالمزيد من الدور، لا توجد جدران قادرة على حمايتى، وعدك فقط هو الذى يحمينى، هب لى حكم الولاية التى وعدتنى بها، يبتسم كافور وقد ازدادت شفتيه المعلقة قبحًا، قال: أنت لست فى حاجة إلى مزيد من الأعداء، خذ الدار الآن، وعندما يموت أعدَى أعدائك سنفكر فى الأمر، يعتدل فى جلسته إيذانا بانتهاء الحديث، ينصرف أبو الطيب حانقا، يدرك فجأة أن كافور يكرهه، ربما بنفس درجة الاحتقار التى يكنها له، لا يحتاج منه أكثر من شعره حتى ينتشر صيته ويتفوق على بنى العباس وآل حمدان، وعندما تنتهى منه سيكون أول من يبادر بقتله، تذكر مقامه فى حلب داخل قصر سيف الدولة الحمدانى، نشاط هذا الأمير وتألقه، حروبه التى لا تنتهى ضد الروم، وضد الطامعين فى عرشه، حياة دائمة على حافة الخطر، مليئة بالإثارة وبالعشق أيضا، يتذكر كيف كانت عينا خولة متألقتين، ما كان أحلى الهوى وأمرّه، فى اللحظة التى أشرقت عليه من نافذة قصرها وخصّته بابتسامتها، لم يصدق أن الكون يمكن أن يحوى هذا البهاء، رغم أنه يدرك أنه عشق مستحيل، لن يرضى الأمير أن تقع أخته فى غرام شاعر جوال، يعيش على عطايا الآخرين، رغم ذلك تواصل عشقهما، عبر لقاءات قصيرة ومختلسة، يخيم عليها الخوف لا الوله، لم يقبلها رغم شدة توقه لثغرها، ولم يلمس يدها رغم جوعه لملامسة جسدها، سمحت له فقط أن يقبل ذيل ثوبها، وأن يشم قليلا من عطرها، لم يكتمل بينهما لقاء إلا فى لحظات الاحتضار الأخيرة، بعد أن تمكن المرض من جسدها وحولها إلى كائن هش، كانت ترقد على فراش فى الحديقة واقترب منها واجفا، تشبثت بيده للمرة الأولى، وهمست: خذنى إليك، دعنى أشعر بجسدك بجانبى، لم يكن باقيا فيها ما يؤخذ، ظفر المرض بأفضل ما فيها، وسيحصد الموت البقية، حتى بعد أن ماتت غضب الأمير لأنه رثاها وكشف عن لواعج قلبه، غيّبها القبر وجافاه الأمير وأظلمت حلب فلم يعد هناك مفر من الهرب، جاء إليه وعد كافور بأنه سيُقطعه ولاية من الولايات، اعتقد أن الرؤوس سوف تتساوى، لن يتزوج خولة ولكن أميرات أخريات سوف يسعين خلفه، ولكن العبد كافور ما زال يأخذ رحيق شعره ولا يعطيه ما يستحقه. يجلس أبو الطيب على فراشه عاجزا عن النوم، يبحث فى ذهنه عن وسيلة أخرى لإقناع هذا العبد العاصى رغم أنه يدرك أنه لا وسيلة سوى العصا، ينهض حين يسمع طَرْقا لحوحًا على الباب، تطل من خلفه فتاة زنجية، يتطلع إلى ملامحها الوحشية حائرا فتبادره بالابتسام: أنا هدية مولاى كافور إليك،لم تكن لها جمال خولة، كانت كائنا بريًّا يكسوها جلد لامع كالأبنوس، وجسد غريب صُنع من جوهر الشهوة، تقتحم فراشه وتكشف له عن عرى صدرها فلا يجرؤ على لمسه، يحس فقط بالصهد الذى ينبعث منها، يسألها: لماذا أرسلك سيدك إلىّ؟ تبتسم قائلة: رآك متوترا فأرسلنى لأخفف عنك، ليس من عادة كافور إرسال العطايا المفاجئة ومحاولة الاسترضاء، تميل عليه أكثر، تُغرقه فى رائحة القرنفل التى تنبعث منها، ولكن رغم جوعه إليها يظل متوترا، إنها ليست مجرد جارية، إنها رشوة ساخنة، محاولة من كافور لتفويت وعوده، تضع يدها على صدره كأنها تقيس نبضات قلبه.. أنت متوتر وعضلات قلبك مشدودة ، تقول وهى تنهض، تذهب إلى ركن الغرفة حيث توجد منضدة عليها بضع من قنانىّ الخمر، يتأمل ظهرها وهى تصب له كأسا، ربما لو أنه سكر قليلا لانهارت كل موانعه، لاستطاع أن يستمتع باللحظة دون أسى على ما فات ولا خوف مما هو قادم، تستدير وتقبل عليه وهى تحمل الكأس مترعة، نبيذ قبرص الذى يفضله، تمد يدها نحوه حتى تسقيه، ويمد شفتيه ليأخذ رشفته الأولى، ولكنه يلمح أصابعها الطويلة الممتلئة قليلا، ويرى الخاتم فى بنصرها، قمته مفتوحة، لم تغلقه جيدا، ولم تُزل ما عليه من بقايا ذرّات بيضاء، ينظر إلى عينيها الواسعتين وهما تحدقان فيه، تستحثه ليسرع بالشرب، يتحول وجهها تدريجيا ليصبح وجه كافور، يشعر بجسدها ثقيلا وقاسيا، لم تكن وسيلة للمتعة ولكن أداة للقتل، يمد ذراعه فى انتفاضة أخيرة ويطيح بالكأس من يدها، ينفضها من فوق جسده وهو يصرخ فيها: عودى لسيدك، تظل تحدق فيه، لا تدرى كيف كشف أمرها، تدارى عرى صدرها وقد انتابها خجل مفاجئ، تجرى خارجة من الغرفة، ولكنه يدرك أن إقامته فى هذا البلد قد انتهت، وأن مسالك الهرب قد انفتحت من جديد. لن يغير المتنبى اسمه فقط، ولكنه سيواصل الهرب حتى تحين لحظة النهاية، يخرج عليه أناس من بنى أسد يريدون قتله، لأنه هجا واحدا من كبرائهم، وعندما يحاول الهرب مبتعدا، يقول له غلامه: أتهرب وأنت القائل الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم ، يرغمه على التوقف، من أجل استرداد عزة النفس التى ضيّعها طول الهرب، يدير عنان جواده وهو يقول: قتلتنى قتلكَ الله، يعود إلى قتلته ويظل يقاتلهم حتى يُقتل.