ذهب وزير الداخلية محمد إبراهيم، فظن البعض أن الربيع أتانا ضاحكًا. الدنيا ليست ربيعًا، ولن تكون إلا بإجراءات شاملة على الأرض وإصلاحات متكاملة فى منظومة الجهاز الأمنى. عادةً ما تواجه الديمقراطيات الجديدة معضلة القيام بوظيفتين للجهاز الأمنى فى توقيت متزامن، فهو من جهةٍ مُطالَب بالحفاظ على الأمن فى ظل الوضع الأمنى الهش للبلاد، ومن جهةٍ أخرى مُطالَب بإصلاح الشرطة ثقافيًّا ومؤسسيًّا، ولذا فإن دقة المرحلة تتطلب عدم طغيان إحدى الوظيفتين على الأخرى، فلا إصلاح دون احترام حقوق الإنسان ولا إصلاح دون حماية أمن المجتمع والمواطنين بكفاءة ومهنية. لن نبالغ إذا قلنا إنه لا يمكن استيفاء متطلبات التحول الديمقراطى دون وجود تصور متكامل وواقعى لإصلاح الأمن، وليس مقبولا ولا معقولا أن يكون طريق الإصلاح الأمنى عبر زيادة تسليح قوات الأمن مع بضع محاضرات عن حقوق الإنسان، أو حتى تجميل الوجه بإدارة علاقات عامة أو إعلام فى الداخلية تتولى إنكار الجرائم التى تُرتكب، أو تخفف من وقع ما جرى فعلا بكلمات منمقة، وإنما يتحقق ذلك بتركيز الأمن على مهمته الأساسية، وهى مكافحة الجريمة، وليس إدارة الدولة كلها من أول إصدار الرقم الوطنى وحتى الإشراف على الانتخابات وما بينهما من أمور. إن عملية إصلاح الشرطة لا بدّ أن تكون ممتدة وتدريجية وعلى عدة مستويات، فهناك دول مثل التشيك اختارت أن تسرّح كل العاملين ببعض الأجهزة الأمنية دفعة واحدة، فتم تفكيك جهاز الأمن السياسى بالكامل وبناؤه من جديد، كما تم تسريح أعداد كبيرة من العاملين فى الأمن العام وأفواج الشرطة المعادلة للأمن المركزى، غير أن التكلفة الاجتماعية العالية لهذا القرار تجعل تطبيقه بالغ الصعوبة فى مصر، خصوصًا أن العدالة الاجتماعية كانت أحد مَطالب الثورة، كما كان مطلب الكرامة. ويمكن عمل رصد لوضع وتقييم العاملين بالشرطة من وحى التجربة البولندية، التى استبعدت من الخدمة فئة المتشبثين بالعقيدة الأمنية القديمة والمعرقلين للتغيير، ومعظمهم من أصحاب الرتب الكبيرة. أما الفئة الثانية، وهم صغار الضباط ذوو القابلية للتعلم والتطور وذوو الطموح للارتقاء فى السلّم الوظيفى، فيمكن تدريبهم وتطوير قدراتهم للاندماج فى العقيدة الأمنية الجديدة، وذلك بشرط عدم تورطهم فى انتهاكات سابقة لحقوق الإنسان، وإلا تم تصنيفهم ضمن الفئة الأولى. أما الفئة الثالثة فهى غير موجودة أصلا، ولذا وجب توظيفها على وجه السرعة، وهم المدنيون أصحاب التخصص فى القانون وحقوق الإنسان، وتعهد إليهم مهمة رسم السياسة العامة للشرطة وتدريب العاملين بها على العقيدة الجديدة التى تحترم حقوق المواطن وحرياته. من باب الإنصاف، يجب أن نشير إلى إجراءات مهمة اتُّخذت على طريق الإصلاح، وإن كانت غير كافية أو مكتملة، ومن ذلك تحويل جهاز أمن الدولة إلى جهاز للأمن الوطنى وسحب كثير من اختصاصاته التى تتجاوز صلاحياته، وإصدار وزارة الداخلية مدونة قواعد سلوك وأخلاقيات العمل الشرطى ، تناولت رسالة وأهداف وواجبات وحقوق العمل الشرطى المصرى، وذلك بهدف تغيير عقيدة الشرطة وتوجيهها لاحترام حقوق الإنسان وحكم القانون. نضيف إلى ذلك إجراء تعديلات على أحكام القانون رقم 109 لسنة 1971 بشأن تنظيم هيئة الشرطة، الذى وافق عليه مجلس الشعب بتاريخ 4 يونيو 2012، ومن أهمها تقليص صلاحية المجلس الأعلى للشرطة فى ما يتعلق بحق تأديب الضباط، ومنح هذا الحق لوزير الداخلية مع اعتبار رأى المجلس استشاريًّا ، كما نص على تنظيم الشؤون الوظيفية للضباط والأفراد وقواعد تعيينهم وتنقلاتهم وترقياتهم وقواعد التأديب والإجازات والإعارات والانتدابات، بالإضافة إلى جداول المرتبات للاستفادة من العنصر البشرى داخل وزارة الداخلية فى دعم السياسات الأمنية وتحسين الأوضاع الوظيفية لأفراد الشرطة، وأبرزها استحداث فئة جديدة ضمن أعضاء هيئة الشرطة هى فئة ضباط الشرف ، التى يترقى فيها أمين الشرطة إلى ضابط شرف ، وتمثل هذه التعديلات استجابة للحد الأدنى من المطالب والمقترحات. هذه الإصلاحات بقيت بحاجة إلى إجراءات شاملة وخطط واضحة وقرارات ملزمة كى تكتمل صورة الإصلاح وتتوقف دورة العنف الأمنى ضد المواطنين. تلك الدورة التى جعلت أى مظاهرة سلمية تتحول إلى معركة تزهق فيها الأرواح ويسقط فيها الأبرياء، فقط بمجرد ظهور الجهاز الأمنى. ولأنّ الانتهاكات المنتظمة لحقوق الإنسان لا تؤثّر على الضحايا المباشرين وحسب، بل على المجتمع ككل، يصبح من مقتضيات نجاح المرحلة الانتقالية أن تضمن الدولة أو بالأحرى يضمن القائمون على إدارة المرحلة الانتقالية عدم تكرار تلك الانتهاكات، مما يقضى بضرورة القيام بإصلاح المؤسسات التى إما كان لها يد فى هذه الانتهاكات وإما كانت عاجزة عن تفاديها. وتقول تجارب السابقين إن تاريخا حافلا بالانتهاكات الجسيمة التى لم تعالَج سيؤدى حتما إلى انقسامات اجتماعية ويكرس غياب الثقة بين جماعات المجتمع المختلفة، بل وفى مؤسسات الدولة ذاتها، فضلا عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية أو إبطاء تحقيقهما. إنّ أى حل أو إصلاح للجهاز الأمنى لا يتسع لجهود مجتمعية وشبكات شبابية وسياسية مع الدولة، لن يقود إلا إلى مزيد من التوحش والنزعة الأمنية، وهو ما سوف يعنى مزيدا من القمع والتمرد. يقتضى هذا كله رؤية سياسية وتشريعية وتنفيذية، بل إسهاما قضائيا وقانونيا فى صياغة صورة جديدة للهيكل الشرطى ومسؤولياته، وصياغة عقيدة أمنية جديدة، تقوم على احترام حقوق الإنسان بالتوازى مع ضرورة الالتزام بالعمل الشرطى المحترف.