فتح الحكم بعدم دستورية قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، الباب أمام سيل من التحليلات التى ذهبت إلى أن إعداد القانون ببعوامل العوار الكامنة فيه إنما يعكس رغبة السلطة التنفيذية فى تأجيل الانتخابات البرلمانية لأطول فترة ممكنة وفى عرقلة وجود برلمان يتولى اختصاصى التشريع الذى ينهض به حاليا رئيس الجمهورية منفردا، والرقابة على السلطة التنفيذية بما يمكن أن يحد من خطط السلطة التنفيذية وبرامجها خاصة فيما يتعلق بتعديل هيكل الإنفاق الحكومى خلال الفترة القريبة المقبلة. لكن فى المقابل، يتوافر عدد من المعطيات يدفع باتجاه رأى يتعارض كليا مع حجج أنصار نظرية المؤامرة السابقة. أقرب تلك المعطيات إلى الذهن يتمثل أولا فى ما سيؤدى إليه تأجيل الانتخابات من وضع الدولة بأسرها فى حرج أمام المجتمع الدولى، الذى يتربص عدد من قواه الكبرى بمجمل المسار السياسى فى مصر منذ الثالث من يوليو 2013. وثانيا تهديد غياب الاستقرار التشريعى بإضعاف الجاذبية الاستثمارية لمصر عشية مؤتمر اقتصادى تراهن السلطة التنفيذية القائمة حاليا على أن يتيح لها استعادة زخم الاستثمارات الخارجية المباشرة الذى كانت تتمتع به مصر قبل إطاحة نظام مبارك. وغنى عن البيان ما لتعزيز قدرة البلاد على جذب تلك الاستثمارات من أهمية ليس فقط فى تحرير قرار مصر ودورها الخارجى من قيود الارتهان للدعم الخارجى، ولكن أيضا فى تعزيز شرعية نظام 3 يوليو 2013، وقدرته على الوفاء بالاحتياجات والمطالب التنموية لمجتمع يموج بكثير من عوامل القلق والاضطراب والتطلع. وأخيرا، يبقى أهم تلك المعطيات هو حقيقة أن السلطة التنفيذية، خاصة مكونها الأمنى، تمتلك تاريخيا ومن خلال تحالفاتها الاجتماعية الواسعة والعميقة القدرة على ضمان برلمان يتماهى فى الحد الأدنى اللازم مع توجهاتها وخططها. وكان من شأن برلمان من هذا القبيل أن يكون، فى اللحظة الراهنة، عاملا يدعم السلطة التنفيذية القائمة او على الأقل يحمل عنها جزءا من عبء تآكل شعبيتها المتوقع فى ظل التحديات الواسعة التى تواجهها الدولة والقرارات الصعبة وغير المريحة اجتماعيا الواجب اتخاذها. لا يمكن بالتالى الجزم بحقيقة العوامل التى أدت إلى عوار قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، هل هى رغبة السلطة التنفيذية فى مواصلة الانفراد بمهام التشريع أم أن تأثير مساومات العصبيات المجتمعية التى لا تزال تحكم معظم العملية الانتخابية فى مصر وتحدد جزءا مهما من خيارات أطرافها سواء أكانت الدولة أو حتى الأحزاب التى يتباكى كثير منها حاليا على تأجيل الانتخابات. ما يمكن الجزم به أن الانتخابات ستجرى خلال أشهر قليلة لن تتجاوز خمسة أشهر بحد أقصى، خاصة وأن إجراءها يُعد شرطا مهما لاستقرار الوضع القانونى للنظام السياسى فى مصر داخليا وفى مواجهة العالم بأسره على السواء. لكن يبقى السؤال الأهم والذى يستلزم الإجابة عليه بشكل واضح: هل يمكن للبناء الحزبى القائم فى مصر وأى انتخابات تشريعية أن ينتجا شريكا حقيقيا فى مهمة استعادة الدولة المصرية الفاعلة، والاستجابة للتحديات التى تهدد مقومات بقاء المجتمع المصرى واستقراره منذ أربعة عقود على الأقل؟ يكشف استعداد الأحزاب المصرية لموسم الانتخابات التشريعية عن افتقار تلك الأحزاب إلى أى أجندة تشريعية واضحة ومتكاملة يتم طرحها على المجتمع بأسره، بقدر بقائها أسيرة التحالفات العصبية فى بناء قوائم مرشحيها والمتحالفين معها من مرشحى الفردى. استمر بالتالى نشاط تلك الأحزاب الانتخابى موسميا يحكمه قانون تقسيم الدوائر لتحديد القوى الأكثر فاعلية فى كل دائرة، من دون أن تمتلك هذه الأحزاب أى فاعلية ذاتية تستند إلى رؤى أو برامج يمكنها إقناع الجماهير وتعبئتها لدعم مسار سياسى إيجابى ومتكامل بدلا من النكوص إلى حالة التشظى التى تعقب كل فوران سياسى تشهده البلاد ولا تتجاوزه. يعزز ذلك حقيقة أن تلك الأحزاب لن يمكنها أن تكون بالتالى شريكا سياسيا يعول عليه فى بناء ما يطالب به الجميع من رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة المصرية او حتى مجرد إصلاح ما تفاقم من مظاهر إخفاقها وهشاشتها. ذهبت أغلب التحليلات والطروحات السياسية قبل حراك 25 يناير 2011 الثورى إلى أن ضعف الأحزاب المصرية نتاج الطبيعة المقيدة للنظام الحزبى آنذاك وشيخوخة أغلب قادتها فى ذلك الوقت. وبالرغم من أن هذين العاملين شهدا تحولات جوهرية خلال السنوات الأربع الماضية فلا تزال سمتا الضعف وعدم الفاعلية هما الأبرز فى البناء الحزبى فى مصر حتى اللحظة. والواقع أن الأزمة الحقيقية تتمثل فى أن عمليات الإحلال والتجنيد السياسى فى تلك الاحزاب لا تزال قاصرة على نخبة سياسية لا أقول إنها جميعها فسدت، وإن كان جزء مهم منها فاسد أو منبطح، ولكنها فى المجمل نخبة أثبتت فشلها التاريخى فى مواجهة تحديات الأمة المصرية. ستعقد الانتخابات التشريعية وسينتخب برلمان، لكن ستبقى مصر والسياسة فيها فى أزمة طالما لم تتحررا من تلك النخبة الفاسدة أو الفاشلة، تحرير ليس سبيله العزل السياسى المقنن الذى لا يعكس سوى الإخفاق فى تقديم البديل. نفى تلك النخبة التى قادت مصر إلى الفشل يقتضى تحرير السياسة المصرية بالانفتاح على الفئات الاجتماعية المهمشة سياسيا فى كل قرية ونجع وحارة من أرض هذه البلاد، وليس من سبيل لذلك إلى إطلاق السياسة فى النظام المحلى ودعم دوره كشريك مهم فى صنع السياسة فى مصر وضبط قنوات التجنيد السياسى فى إطاره، وهذا حديث آخر لكنه ضرورى وحتمى لنجاح أى ثورة أو تغيير أو حتى إصلاح فى بر مصر.