بعدما أُعلنت الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير عام 1958، تضاربت ردود الفعل فى العالم العربى والغربى، واعتبرها البعض خطوة جديدة على طريق الثورة العربية، واعتبرها بعض آخر أنها عبء على الدولتين، وما هى إلا مجرد زيادة نفوذ سياسى للدولة المصرية الفتية على الشعب السورى، وتسارعت خطى الوحدة السياسية بالفعل، وانتُخب جمال عبد الناصر كأول رئيس للجمهورية العربية المتحدة، بدلا من رئاسته للجمهورية المصرية، وحاول كثيرون من المتطوحين بهذه الوحدة، والغنّائين لها، أن يصوروا الوضع فى البلدين بأنه على ما يرام، وذهب أحد المحررين فى مجلة «روز اليوسف» إلى وصف هموم الشعبين بالمشتركة قائلًا: «ستفاجأ وأنت تستمع إلى الأغانى الريفية فى القرية السورية بتشبيهات قريبة من مواويل الصعيد، وسترى إذا كنت عاملا أن آمال العامل السورى الممثلة فى القوانين العمالية.. هى نفسها آمال ومشكلات العامل فى مصر». وكتب إحسان عبد القدوس مقالًا تحت عنوان الزعيم.. والمبدأ ، واستهله ب: إن جمال عبد الناصر لم يصل إلى زعامتنا، عن طريق سهل.. إنه لم يرث الزعامة عن طريق آخر.. ولم يدفعه إلى الرئاسة حزب من الأحزاب.. ولم يتكئ إلى أحد ليرتفع.. كان مجرد واحد من ملايين الناس.. ابن موظف صغير.. لا يملك سوى مرتبه . وهكذا تواترت الكتابات والأغانى والتقارير والرسومات، ولا خلاف على صدق كثير من هذه الكتابات، وامتلاء أصحابها بحماس منقطع النظير، والآمال العريضة التى كانت تراود كثيرين فى وحدة عربية حقيقية، وحدة ما يغلبها غلّاب كما كان يقال آنذاك، ولكن هناك بعض الأصوات ارتفعت آنذاك، للتحذير من هذه الخطوات السريعة، لإبرام هذه الوحدة، وحذروا من الخلط بين التعاون والوحدة والدمج، وكتب فتحى غانم منبها إلى خطورة دمج الفنون ببعضها، وهذا ما يعمل على إلغاء الخصوصيات، ولكن لم يكن أحد يعطى أذنا لتسمع، أو عينا لترى، أو نبضا ليحس. وتسارعت الخطى، حتى وصلت إلى النهاية المأساوية، التى اعترف بها هيكل وشرحها بالتفصيل فى كتابه ما الذى جرى فى سوريا؟ ، وفى ظل هذا الحماس الغامر، نشرت مجلة روز اليوسف فى عددها الصادر فى 3 مارس عام 1958، خبرا عنوانه توفيق الحكيم ، ويقول الخبر: عندما بدأت مظاهرة الأدباء والفنانين من حديقة الأزبكية، فى طريقها إلى رئاسة مجلس الوزراء لتهنئة الرئيس بانتخابه أول رئيس للجمهورية العربية المتحدة.. كان على رأس المظاهرة.. توفيق الحكيم.. وعندما وصلت المظاهرة إلى شارع سليمان، كان توفيق الحكيم قد استند إلى ذراع يوسف السباعى ليستطيع متابعة السير، وفى ميدان التحرير.. استند توفيق الحكيم إلى ذراع الأستاذ أحمد حمروش.. وفى فناء مجلس الوزراء.. قال توفيق الحكيم لمن حوله من الأدباء الشبان: المظاهرة القادمة.. تبدأ من ميدان التحرير.. فليس الأدباء كلهم شبابا !!! وكان الحكيم الذى يقود هذه المظاهرة، قد قارب على الستين من عمره، وكان التقارب بينه وبين الثورة يصل إلى حد التماهى، واعتبره جمال عبد الناصر من أكبر ملهميه، ودلّل على ذلك بروايته عودة الروح ، وكان ناصر قد أهداه كتاب فلسفة الثورة ، وعندما قامت حركة التطهير فى بدايات الثورة، وجاء اسم توفيق الحكيم ضمن الذين لا بد أن يستبعدوا من العمل بدار الكتب، بأمر إسماعيل القبانى الوزير المختص بهذا الأمر آنذاك، غضب جمال عبد الناصر، وأبقى على توفيق الحكيم كرئيس للدار. توفيق الحكيم الذى قاد المظاهرة فى عام 1958، وتمتع كما لم يتمتع أديب بثمار ثورة يوليو، هو ذاته أول الأدباء الذين انقلبوا على جمال عبد الناصر فى حملة التمزيق الظالمة والبشعة التى نهشت لحم الزعيم، فى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى، وكان كتاب عودة الوعى ، بمثابة إشارة البدء لمظاهرة مضادة لتشويه كل الخطوات التى خطاها جمال عبد الناصر ونظامه والثورة التى قادها منذ أكثر من عشرين عاما من قيامها، وكان توفيق الحكيم من أكثر مؤيديها، وأكثرهم استفادة، وأغزرهم إنتاجا وحرية ورواجا. هنا انقلبت الدنيا على توفيق الحكيم، فكتب محمد عودة كتابه الوعى المفقود ، ردًّا على الحكيم، كما كتب حسنين كروم كتابا آخر تحت عنوان سقوط الحكيم ، وكان هذان الكتابان من أشمل ما تناولا سيرة الحكيم فى عهد جمال عبد الناصر، ورصد الكاتبان كل التصريحات الإيجابية والمؤيدة لعبد الناصر ونظامه. وقد ميّز الكاتبان بين هجوم توفيق الحكيم على مسيرة جمال عبد الناصر، وهجوم الرجعيين الذين أوذوا بشكل واضح فى عهد عبد الناصر لحماية الثورة، ولأن توفيق الحكيم وضع نفسه طرفا فى معركة تحطيم جمال عبد الناصر ومسيرته، رغم الاحتضان الذى حدث طوال ما يقرب من عشرين عاما. وفى تلك الأثناء، كتب المفكر السياسى ورئيس تحرير مجلة الطليعة اليسارية لطفى الخولى رسالة إلى توفيق الحكيم فى 16 نوفمبر 1974، ونشرتها مجلة روز اليوسف ، طالبا منه فتح حوار شامل وكامل عن المرحلة السابقة، ورد عليه الحكيم برسالة أخرى بعد ذلك بيوم واحد، موافقا على إجراء هذا الحوار المطول، مما اعتبره حسنين كروم ممالاة للشيوعيين. وبالفعل بدأت مجلة الطليعة فى حوارها مع توفيق الحكيم على مدى تسعة أشهر، بحضور معظم أطياف اليسار، وهم لطفى الخولى وأحمد عباس صالح ولطيفة الزيات وفؤاد مرسى وعبد العظيم أنيس وأبو سيف يوسف ومحمد سيد أحمد ومراد وهبة وخالد محيى الدين، ونشرت الحوارات كاملة ومسلسلة فى المجلة، ثم تم جمعها ونشرت فى مجلد ضخم، وصدر عن دار القضايا، ليضع النقاط على حروف مسيرة مفكر ومبدع، تعانى من تناقضات جمة.