ليس مجال هذه السطور التأريخ للراحل الكبير، وكاتب القصة والرواية والبحّاثة فى علم اللغة سليمان فياض، ولكنها سطور تشير إلى أنه كان دوما يدخل فى معارك معلنة، وأخرى مستترة، وثالثة تلك التى استخدم فيها أقنعة وأحرفًا أولى لمن يهاجمهم ويتندر عليهم، ولا أخفى أنه كان شديد القسوة فى بعض الأحيان. وأعتقد أن هذه المعارك كانت تنطلق من نفس ممرورة إلى حد كبير، فهو كان عازفا بالفعل عن إعلان بضاعته الأدبية، بل كان ينأى بنفسه عن هذه الأضواء الزائفة، غارقا فى عالم إبداعه الذى ينهل من مساحات فريدة وخاصة، عالم قريته التى يعرف أسرارها، ويتقن اللغة التى تشى، والتى تصرّح، والتى تلمّح، كذلك هو يعرف عالم الأزهر الغنى بكل التناقضات، وقد سجّل تجربته فى روايته أيام مجاور . وفى 1 مارس 1960 نشر إحدى قصصه فى مجلة الشهر ، التى كان يرأس تحريرها الراحل سعد الدين وهبة، وكان عنوان القصة كنز قرية مجهولة ، ولم تكن فرادة القصة فى كونها تستخدم مفردات مثل الطلمبة والكانون وسيدى على، أو عندما يأتى الحوار باللهجة الريفية الخالصة، دون أى تدخل من المؤلف، رغم أزهريته وفصاحته واعتداده باللغة العربية، كعمود من أعمدة نهضة أى شعب، ولكن المدهش فى القصة وأخواتها من قبل ومن بعد، فى الاكتشافات الاجتماعية التى ينسجها فياض بشكل سردى فائق. ورغم هذه الموهبة التى فاضت فى نهر الحياة الثقافية آنذاك، أى فى أواخر الخمسينيات -نقول الخمسينيات حتى لا يغضب فياض الذى كان يخطّئ الخمسينات- فإن الحياة الثقافية والنقدية والأدبية لم تلتفت بشكل يليق بهذه الموهبة، ومن المحزن كذلك أن يصدر الناقد الراحل الدكتور سيد حامد النساج كتابا صغيرا، يكرّسه لقراءة بعض مجموعات قصصية، وروايات، ويطلق على هؤلاء الكتّاب أنهم أبناء الحلقة المفقودة فى السرد المصرى. ولأن التأريخ الأدبى فى مصر -دوما- يجانبه الصواب، ويقع فى مزالق عدم الدقة والتعميم والتشويش أحيانا، سنجد أن مساحات كثيرة من هذا التأريخ تفتقر إلى الدقة، وربما الأمانة، وربما تتصف بالتضليل أحيانا، وهذا التأريخ المشوّش استطاع بقدرة عشوائية عملاقة أن يحذف كتّابا وكتابات لها شأن بالغ الأهمية فى تاريخ الثقافة المصرية، ومن هذا المنطلق أطلق الدكتور النساج مصطلح الحلقة المفقودة ، مما ترك غصة فى نفس فياض ورفاقه الذين شملهم هذا الوصف. ولم يكن هذا الوصف لفياض ورفاقه إلا انتقاصا من جهوده وجهودهم فى كتابة القصة والرواية، وبقدر ما كان هذا المصطلح انتقاصا منه ومنهم فقد كان إضافة لأشكال من القيمة والأهمية على كتابات آخرين، ربما لا ترقى بأى شكل من الأشكال لتحظى بهذا الاهتمام، وإذا كانت كتابات النساج النقدية عنوانا، وهى البرواز الذى أحدث هذا الأسى لدى فياض ورفاقه، فإن الحركة النقدية ساهمت فى تكريس هذا المفهوم والمصطلح، بتجاهل إبداعاته اللافتة، وفى الوقت نفسه، التكريس لإبداعات الآخرين. وإزاء هذا الوضع النقدى والتأريخى الظالم والمقلوب، كان سليمان يوجّه سهامه الطائرة يمينا ويسارا، دون أن يشير إلى القضية بوضوح، ولمن قرأ بورتريهات سليمان فياض عن غالب هلسا أو يوسف إدريس أو صلاح عبد الصبور سيلاحظ أن ثمة خدوشا لا بد أن يحدثها فيّاض فى عمق من يكتب عنه، وربما تكون ملاحظاته صحيحة، ولكنها بالتأكيد تنطلق من نفس علاها كثير من الأسى المغلّف بفكاهة الأسلوب، وهناك دليل حى وقاطع على ذلك، وهو كتاب النميمة . وفى منتصف الثمانينيات أصدر المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية أربعة عشر مجلدا، تحت عنوان المسح الاجتماعى الشامل للمجتمع المصرى 1952- 1980 ، وهذا المسح يشمل مجالات الإنتاج والخدمات، السكان والأسرة، التدرج الاجتماعى (الطبقى)... إلى آخر كل المجالات المجتمعية، وضمن هذه المجالات كان هناك قسم للفنون والآداب. ولم يفوّت سليمان فيّاض الفرصة فى تسديد سهامه الصحيحة للقسم الخاص بالفنون والآداب، وكتب مقالا فى مجلة الهلال الصادرة فى أكتوبر 1986 تحت عنوان أوهام الحلقة المفقودة.. وتزييف التاريخ الأدبى ، وبعد أن استعرض بعض ما جاء فى الموسوعة توقف عند قسم الفنون والآداب ووصفه بأنه نقطة الضعف الوحيدة فى الموسوعة، وعلّل مصدر هذا الضعف بأنه يكمن فى قلة الأرقام، وفى فقد المقارنة بينها إحصائيا، وبالتالى فى فقد السمة الأولى للوصف فى المسح، فوقعت تقارير هذا الموضوع -كما يكتب فياض- بدرجة أو بأخرى فى إطلاق الأحكام العامة، والآراء الشخصية، حسب أهواء كاتبى هذه التقارير ومواقفهم الحياتية المختلفة. ووصف سليمان هذه التقارير بأنها كُتبت بتعجّل، ودون جمع وتصنيف للإحصائيات، والدليل على ذلك هو التقسيم الجزافى لتاريخ القصة القصيرة، وقد شارك فى كتابة هذا التقرير جارى وصديقى -كما يذكر فياض- الناقد الدكتور صبرى حافظ عضو اللجنة التى أقرّت هذا التصنيف. ويتوقف فياض عند التوقف الطويل الذى وقفه كاتب التقرير عند يوسف إدريس، ليمنحه امتيازا وشرفا خاصين بقوله: لقد كان عالم يوسف إدريس واسعا يشمل القرية والمدينة ، ثم ينتقل كاتب التقرير بسرعة إلى كتّاب آخرين، وكأنهم كانوا ملحقين بيوسف إدريس مثل محمود السعدنى وعبد الرحمن الشرقاوى وغيرهم. وبعد أن يستفيض فياض فى رجم التقرير وتخطئة نتائجه يصل إلى بيت القصيد، عندما ذكر كاتب التقرير فى خاتمة تقريره أن هناك حفنة من الكتّاب لم يمتلكوا دوافع مثل يوسف إدريس وحساسيته.. والذين ساروا على دربه، فكانوا جيلا ضائعا -حسب وصف التقرير ، ومن بين هؤلاء جاءت أسماء سليمان فياض وأبو المعاطى أبو النجا وعبد الله الطوخى وغيرهم. وعلى قدر قسوة التقرير، جاءت قسوة سليمان فياض فى مقاله هذا، بل فى كتابات كثيرة له.