على غير العادة، بدا الأستاذ سيد جارنا مشغول البال ومستعجلا جدا، فلم يتلكع ولم يثرثر معى كدأبه كلما التقانى بالصدفة أمام الأسانسير، بل اكتفى هذه المرة بإيماءة وهزة خفيفة من رأسه أحدثها بالعافية على سبيل التحية، ثم عاد وواصل الضغط العصبى المتتابع على «زر» استدعاء المصعد حاثا إياه على الحضور بسرعة، وظل كذلك حتى أصبت أنا كمان بعدوى العجلة بغير سبب ولا مبرر، فشعلقت رأسى عاليا أتابع بقلق لوحة الأرقام، وهى تومض بالأدوار التى يعبر عليها الأسانسير صاعدا، وأنا أكاد أصرخ فيه راجيا: «وحياة والدك انزل بسرعة عشان الأستاذ سيد مستعجل قوى».. وبالفعل بدا المصعد وكأنه استجاب لرجائى، وأخذ يتهادى هابطا، بينما إصبع سيد ما زال ينغز «الزر» بعنف، وعيناى أنا معلقة باللوحة التى خذلتنى فجأة، إذ توقف وميضها عند أحد الأدوار، ولم تتحرك زمنا طال لدرجة لم تحتملها أعصاب سيد فهتف: صحيح.. يا مستعجل عطلك الله، يا أخ يا اللى فتحت الأسانسير فى التامن خلى عندك دم واقفل الباب.. قالها وهو يخبط ويرزع بكفه رزعا شديدا على صاج المصعد المسكين! إذن أخيرا اعترف سيد صراحة بأنه مستعجل، وجعلنى هتافه أفيق وأكتشف أننى لم أجرؤ حتى على سؤال نفسى عما عساه يكون سبب هذه العجلة الغريبة على رجل يبدو رائقا دائما، ومستعدا أن ينفق ساعة أو أكثر فى الرغى مع أى جار يعرف بالكاد اسمه الأول.. هيّج هذا الاكتشاف فضولى بشدة، ولم أطق الصمت فاستجمعت كل شجاعتى وسألته: خير يا أستاذ سيد.. أراك متوترا وفى عجلة من أمرك.. هل حدث لا قدر الله شىء فى البيت.. قُل يا رجل إحنا إخوات؟! كف سيد يده يائسا عن الرزع والخبط، وجاوبنى بنفاد صبر ظاهر: لا أبدا مافيش حاجة.. بس مش معقول، عايز ألحق أشارك فى (الحوار المجتمعى)، والناس اللى فى العمارة بتاعتنا دى ماعندهاش أى مسؤولية. كان قد عاد للخبط والرزع بعنف أكبر غير أننى لم أبال وعدت أسأله: (الحوار المجتمعى) بتاع إيه وفين يا أستاذ سيد؟!! ماعرفش بتاع إيه، لكن الحكومة الأيام دى بتدعونا للمشاركة فى هذا الحوار، وإحنا لا بد يكون عندنا شوية مسؤولية وطنية ونشارك.. هوه حضرتك مش ساكن معانا فى المجتمع ده برضه؟!.. ثم عاد للهتاف من جديد: يا أستاذ يا اللى ماعندكش دم وسايب باب الأسانسير مفتوح فوق.. إقفله وكفاية عطلة وقلة أدب. أنا ساكن فى العمارة معاك، وأظن أن هذه العمارة موجودة فى المجتمع .. بس حضرتك ح تشارك فى هذا الحوار فين بالضبط؟! الواد وليد ابنى.. إنت عارفه.. أيوه عارفه، اللى مشارك تامر ابن الحاج محمود فى الكشك بتاع الموبايلات اللى على الناصية.. صح؟ صح.. أنا سألته إزاى يا ابنى أشارك فى الحوار المجتمعى ، قال لى شوف يا بابا، مافيش غير الشبكة العنكبوتية اللى هى الإنترنت ، أدخل عليه وشارك براحتك.. أصله بتاع موبايلات وعارف حاجات إحنا مانعرفهاش.. (ثم تنهد سيد مرتاحا) وقال: أهوه أخيرا إتقفل الباب.. أعوذ بالله من دى عمارة. عدت للصمت فترة انتهت بوصول الأسانسير بالسلامة، وانفرج بابه عن جار آخر ما أن رآنى أنا وسيد منتصبين أمامه كأسدَى قصر النيل حتى تمتم مكسوفًا: لا مؤاخذة يا جماعة.. لم يرد كلانا على الرجل الذى تسرب من بيننا خزيانا، بينما كنت أفسح المجال لسيد لكى يركب هو أولا لأنه مستعجل، لكن لدهشتى وجدته يتوقف، ورمقنى بنظرة عاد إليها الود القديم ثم سألنى وهو يعيد إغلاق باب الأسانسير: سيادتك أكيد بتعرف إنجليزى؟ أصلى عايز أسأل الحكومة سؤالين كده قبل ما أبدأ الحوار المجتمعى معاها.. وتسألها بالإنجليزى ليه ما تسألها بالعربى؟! طب وده يصح برضه، نكلم الست على الإنترنت اللى اسمه إنترنت بالعربى؟! وعايز تسألها إيه بالإنجليزى؟ عايز أقولها كلام كتير قوى.. زى إيه كده مثلا..؟! يعنى طبعا ح أبدأ بأنى أقول لسيادتها: HI، وبعدين لما ترد أسألها: HOW ARE YOU يا مدام.. وكده يعنى. طيب ما أنت قلت أهه فعلا! لأ.. عايز بقى أقوله بالإنجليزى. عدت للصمت، وأخذت أنفق الوقت فى فرك عينى والهرش فى رأسى حتى زهق سيد من انتظار مساعدتى له، فقرر إنهاء الموقف، وفتح باب الأسانسير، وهَمَّ بركوبه لكنه عاد وتوقف سائلا: طب والنبى ماعندكش كمبيوتر من الصغيرين دول آخده منك ساعة كده مسافة الحوار وأرجعهولك تانى؟!