لأن المذبوحين غدرًا مواطنون مصريون كاملو المواطنة والمصرية، فقد تحركت القوات المسلحة المصرية للثأر لهم، بضربات جوية نوعية تستهدف أماكن تمركز الجماعات الداعشية فى ليبيا. لأنهم مواطنون مصريون، يضرب الحزن قلب كل مصرى شعر بالإهانة، وربما الفزع لذبح إخوانه باسم رب لا نعرفه، وباسم سيف لا نؤمن به ولا نقدسه. لأنهم مواطنون مصريون كسائر أهلنا، يتشاركون مع غالبية الفقراء فى هذا الوطن معاناتهم، ضيق العيش وانحسار الفرص، وغياب الأمل، وقدر الهجرة والغربة بحثًا عن رزق الله فى أرضه الواسعة. لأنهم مواطنون مصريون، تمرح فى وجوههم ذات ملامح الشقاء، وذات ثبات السكينة عند المصيبة، وذات قلة الحيلة عند مواجهة التجبر والقهر بلا سلاح سوى مناجاة الرب، الذى يبقى أملًا وحيدًا لجميع الفقراء والمستضعفين الذين يؤمنون برب عادل ورحيم. لأنهم مواطنون مصريون عاديون، ليسوا أعضاء فى حزب أو جماعة، ليسوا فى حالة حرب، ولا فى وضع اعتداء أو قدرة على الدفاع، ليسوا فى اعتصام أو مظاهرة، ليسوا فى خصومة حتى مع قاتليهم، ليسوا طلاب سلطة أو متصارعين عليها، ليسوا غزاة ولا مدفوعين بشهوة امتلاك الأرض واستعباد من عليها، فقط هم طلاب رزق حلال متعوب فيه جهدًا وغربةً. لأنهم مواطنون مصريون يشبهون أبى وأباك، أخى وأخاك، جارى وجارك، هؤلاء العابرون فى كل وقت تبدو هموم الدنيا تحتل رؤوسهم، لكنهم يتحركون على أمل الرزق، ويحمدون ربنا. لكنهم لم يكونوا بمثل هذه الصورة فى البيانات الرسمية والعزاءات الرسمية، والمتابعات الإعلامية شبه الرسمية، نقول مصريين ويقولون أقباطًا، يتبارون فى تقديم العزاء للبابا وتطمين البابا، هل فى ذلك مجرد تقدير معنوى للبابا، أم ترسيخ لسياسة دولتية ظلت قائمة تضع الأقباط فى خانة الجالية التى يترأسها البابا، وتعبر عنها الكنيسة، ويمكن اختصار أحزانها وأفراحها واحتواء غضبها أو الطبطبة على ألمها بمجرد زيارة للكاتدرائية. رغم تغير إيجابى فى سياسات الدولة الموروثة فى التعامل مع الملف القبطى، سواء بزيارة غير مسبوقة لرئيس الجمهورية لقداس عيد الميلاد، وهى تهنئة فى مناسبة دينية، أو خروج المقاتلات الجوية ثأرًا لمواطنين أقباط، وهو تعبير دولتى جديد له دلالة فى نفسية كل مصرى مسيحى لديه ميراث حقيقى من الإحساس بالتمييز. لكن لماذا يبرق المسؤولون برقيات التعازى للبابا، فى موت مواطنين مصريين؟ هل أبرق هؤلاء لآباء الضحايا الحقيقيين، هل بعثوا برقيات إلى يوسف تاضروس وشكرى يونان وعبد المسيح عياد وغيرهم من آباء وذوى الشهداء؟ هل أبرق هؤلاء يعزون شيخ الأزهر فى استشهاد الجنود المسلمين؟ وتهافتوا على زيارة المشيخة للتعزية؟ لماذا تتعامل الدولة مع الكنيسة كأنها سفارة الشعب القبطى فى القاهرة؟ كمواطن مصرى حزين على مواطنين مصريين، أعتقد أن مكان الرئيس السيسى فى الصباح التالى لتلقى نبأ الذبح، وبعد طلعات جوية ثأرية سريعة، ليس فى الكاتدرائية بالقاهرة، وإنما كنت أتمنى أن يكون هناك فى سمالوط بالمنيا وتحديدًا فى عزبة العور التى فقدت نحو 13 من أبنائها، مرة لأن العزاء المفترض يذهب إلى أهل الميت، وما عدا ذلك يمكن اعتباره عزاءً معنويا، ومرة حتى يطالع بنفسه أوضاع القرية وأحوال ذوى الشهداء، ربما يجد إجابة لسؤال ردده بعض المسؤولين فى حكومته على طريقة : إيه اللى وداهم هناك؟ ، وربما وجد حلا آخر لمنع موت مزيد من المصريين الباحثين عن الرزق، بإعادة وضع الصعيد على خريطة تنمية حقيقية وناجزة. هؤلاء الشهداء وهم يدفعون ثمن مصريتهم، دفعوا ثمن كونهم أقباطًا فى يد من يكفرونهم، وثمن كونهم صعايدة من تلك البلاد التى تنعدم فيها الفرص وتكون الهجرة خيارًا وحيدًا. الدولة التى تقول إنها تحرك الجيش من أجل الأقباط، لأنهم مواطنون، عليها أن تمضى للأمام فى ترسيخ هذه المواطنة، لا أن تختزل المسألة كلها من جديد داخل الكاتدرائية. مكان رئيس كل المصريين ليس هنا فى الكاتدرائية، وإنما هناك فى سرادق فقير على الطريق الترابى فى قلب الصعيد. العور قبل الكاتدرائية، ويونان قبل تواضروس، مع كامل الاحترام لمقام الأخير.