«1» أتذكر فى إحدى المرات كنت أتحدث مع دبلوماسية من الدول الأوفر حظا على العشاء، وقد بهرنى تمكنها من عديد من اللغات واطلاعها على بحور واسعة من المعرفة والمعلومات العامة رغم صغر سنها. بهرتنى أيضا خلفيتها التعليمية المتميزة، حيث حصلت على شهادات علمية من أفضل وأغلى الجامعات من أكثر من بلد حول العالم. لم يمنعنى فضولى فى أثناء مناقشاتنا حول أشد المسائل تعقيدا فى العالم، وكيف يمكننا المساهمة فى حلها، من محاولة معرفة خلفيتها الاجتماعية، وذلك رغم محاولتى تجنب التطرق إلى المسائل الشخصية، حيث إن ذلك يخالف بعض الأعراف الدبلوماسية، لكن شغلتنى كثيرا المقارنة بين الموظفين العموميين عندنا فى مصر ومستوى تعليمهم ومدى ثقافتهم وبين ما أراه أمامى من موسوعة معرفية فى منتهى الذكاء عاشت فى أكثر من بلد حول العالم، وهى فى الثامنة والعشرين. وجدتها تحكى عن مدى سعادتها، لأن والدها سيقوم بزيارتها الشهر القادم فى شرق آسيا، حيث ستنتقل إلى الدراسة والعمل هناك، فانتهزت تلك الفرصة لأسألها عن وظيفته. أجابت بكل الثقة إنه سائق، فأجبت فى منتهى الارتباك بأنها مهنة أكثر من رائعة وشريفة، وما إلى ذلك من تبريرات لم تفهم هى الداعى من ورائها، فهى لا تعرف استحالة وجود مثل هذه القصص فى بلادنا بسبب انسداد شرايين الترقى الاجتماعى وغياب الفرص المتساوية وانتشار الطبقية المفرطة. ومرّ أمامى سريعا شريط من الأخبار اليومية حول عدم قبول عاملين بالنيابة بسبب خلفيتهم الاجتماعية وكشف وزارة الخارجية الذى يرجح كفة ابن فلان على ابن علان. استدرجتها لتحكى لى أكثر عن عائلتها، فحكت عن أختها المريضة بمرض يمنعها عن الحركة، فتأتى إليها ممرضة يوميا لمساعدتها، وكيف أن هناك لجنة طبية تتابع حالتها، وتبحث دوريا عن أفضل سبل علاجها. تمنيت لأختها الشفاء، ولم أتمالك نفسى من الحسرة على بلد لا يستطيع أغنى أغنيائه أن يمشى فى شوارعه إذا كان معاقا، فما بالك بفقيره. المرض فى مصر بدايته فلّس لارتفاع تكاليفه ونهايته بؤس بسبب أخطاء المعالجين أو ضعف الموارد. فكما وفر برنامج الرعاية الصحية مصاريف العلاج، فإن المعالجين لم يقصروا فى تقديم أفضل خدمة بسبب دواعٍ إنسانية ومؤسسية. كما أن وجود رعاية صحية متكاملة لأختها المريضة وفرت لها وقتا للدراسة والسفر والعمل. 2 يروى سائق تاكسى -فى مصر هذه المرة- قصة كفاحه، وما آلت إليه الظروف لتجعله يترك وظيفته فى مجال السياحة ويواجه صعوبات توفير لقمة عيش وإقناع أولاده بالانتقال من مدرسة خاصة إلى عامة. لكنه نجح بقدرة فائقة وإيمان بحكمة الله أن يتجاوز تلك الصعوبات ويتأقلم مع حياته الجديدة. لم تنته القصة عند هذا الحد، بل ازدادت سوءا حينما مرضت ابنته الصغيرة واحتاجت إلى رعاية صحية جيدة. فتوجه إلى من سماهم أهل الخير، ليدبر مصاريف العلاج التى لا نهاية لها. وبعد أن باع التاكسى وأراق ماء وجه تسولا لدفع فواتير المستشفيات المختلفة، أخطأ الدكاترة فى تشخيص الحالة وأهمل الممرضون فى رعايتها، لتتدهور حالة ابنته أكثر. فى البلاد التى نتهمها بالمؤامرة الكونية علينا، يذهب المريض إلى جهة التأمين الصحى لدفع مصاريف العلاج، ثم يتلقى أفضل ما وصل إليه الطب لمعالجة حالته مع ضمان رعاية صحية إنسانية كاملة. فالمرض لا يعنى بالضرورة انتهاء حياة أسرة بأكملها. فهل تعلم أن تكاليف إشاعة الكشف عن مرض السرطان تصل إلى 5 آلاف جنيه ولا يختلف السعر فى المستشفيات الخاصة عن العامة؟ وهل تعلم أن أرخص حقنة لمعالجة المرض لن تقل عن ألف جنيه شهريا؟ وهل تعلم أننا من أكثر بلدان العالم انتشارا للأمراض وبالأخص فيروس سى ؟ وهل تعلم أن كل تلك المصاريف تضمن لك أسوأ رعاية صحية مع غياب تام لأى محاسبة للمخطئين؟ ■ ■ ■ لم يكن من أسباب الغضب فى يناير 2011 انقسام المصريين بين فلول و إخوان و كنبة و ثوار ، بل ارتفعت حدة الغضب حينما اطلع الجيل الجديد -بسبب التطور التكنولوجى- على قصص مثل قصة الدبلوماسية التى استطاعت أن تتلقى أفضل تعليم ورعاية صحية، ولم تمنعها خلفيتها الاجتماعية من فرصة النجاح فى الحياة. قامت موجة الغضب بسبب معاناة كثير من قصص شبيهة لقصة سائق التاكسى، فانتهت حياتهم بسبب تردى الخدمات العامة وغياب فرصة عادلة رغم مواصلة العمل والسعى ليلا نهارا، فاجتمع حلم التغيير برفض الواقع، فكان الغضب. الطريق إلى المستقبل يحتاج إلى روشتة أكثر إدراكا بالوضع المأساوى، الذى نعيش فيه والابتعاد عن تصنيفاتنا المبنية على صراعات الماضى. ولذلك نحتاج إلى برنامج شامل للعدالة الانتقالية لمحاسبة المقصرين بسبب الإهمال أو الفساد فى تقديم الخدمات العامة مثل الخدمات الصحية. نحتاج إلى برنامج متكامل لدراسة أسباب ما وصلنا إليه والقوانين التى نحتاج إلى تغييرها (مثل الرعاية الصحية) والمؤسسات التى يجب بناؤها (مثل إعادة هيكلة القطاع الصحى) للعبور إلى المستقبل. هذا ما يجب أن ينشغل به البرلمان القادم، ولننح المحاكم التفتيشية للمرشحين ونركز على برامجهم الانتخابية وقدراتهم على إنجاز ما يقولونه. ويعتبر القطاع الصحى مدخلا مهما للتنمية الحقيقية، لأن تطويره يحافظ على الحق فى الحياة، وفى نفس الوقت يخلق فرصا للعمل والبحث العلمى والاستثمار.