تعد إيناس عبد الدايم، بامتياز، ابنة بارة للفن المصرى، بذلت عمرها لأجله، سواء داخل أكاديمية الفنون، حيث تدرجت من عازفة فلوت، إلى رئيس قسم النفخ بمعهد الكونسرفيتوار، إلى عميدة للمعهد، إلى موقع نائب رئيس الأكاديمية. أو داخل دار الأوبرا المصرية كعازفة بأوركسترا القاهرة، قبل أن تصبح رئيسة لها. ومن يتابع نشاط دار الأوبرا المصرية خلال فترة رئاستها سيلحظ بوضوح كيف تمكنت هذه السيدة المقاتلة من تحويل مسارح الدار جميعًا فى القاهرةوالإسكندرية ودمنهور، إلى نوافذ تشرق منها شمس الفن المصرى، تلك القوة الناعمة التى طالما تمتعت بها المحروسة فى الإقليم والعالم. ورغم ما شهدته سنوات ما بعد 25 يناير من تراجع على أصعدة الإنتاج الفنى، الذى سيطرت عليه السوقية والاستسهال، لعله يمثل استمرارًا لمسيرة الانحدار التى بدأت مطالع القرن الحالى، ولم تتوقف حتى الآن، سواء فى السينما أو الدراما أو الغناء، فقد بقيت دار الأوبرا، وحدها، وفية لتقاليدها، حريصة على أداء دورها المنوط بها، المعهود منها، فى ترقية الذوق المصرى، وفى وصْل الفن المصرى بالفن العالمى، حيث استمرت نشاطات الدار فى التعبير عن الروح المصرية الحديثة التى تتعرض لمحاولات إزهاق كادت تودى بها، فظلت منبرًا للفن الحداثى، وبوتقة صهر ثقافية بين القريحة الفنية المصرية والقرائح الفنية المختلفة، للشرق والغرب. كان لافتًا لى، شخصيًّا، حفلة قدمها أوركسترا ميونخ للوتريات فى ديسمبر الماضى، قدم خلالها العازفون تنويعات مختلفة للموسيقى الكلاسيكية، سواء الغربية، خصوصًا بعض أبرز السيمفونيات الألمانية، أو الشرقية، خصوصًا أعمال الفنان الكبير عمر خيرت. كان المثير فى الأمر هو براعة الأوركسترا (الألمانى) فى عزف الموسيقى (المصرية). أما الأكثر إثارة فتمثل فى تكوين الأوركسترا، الذى قاده المصرى أحمد الصعيدى، وتوزع عازفوه الخمس والثلاثين بين ألمان ومصر بالأساس، ناهيك ببعض الجنسيات الأخرى، بعضها إفريقى، على نحو تبدى كأنه حوار ثقافى فنى على المسرح الكبير للدار العريقة. وكان لافتًا كذلك احتفال دار الأوبرا بمناسبتين مختلفتين تزامنتا هذا العام: أولاهما رأس السنة، حيث ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وهى مناسبة طالما احتفت بها مصر (الحديثة) التى نعرفها، قبل أن يخرج علينا من يحذرنا من تهنئة مواطنينا الأقباط بها، حيث قدم أوركسترا القاهرة السيمفونى على المسرح الكبير بالقاهرة، ثم الإسكندرية، ما يليق بالمناسبة من أعمال كبار الموسيقيين، خصوصًا من ألمانيا والنمسا، أمثال يوهان شتراوس الأب، والابن، وفرانز ليهار، وروبرت شتولتس، وفرانز فون سوبيه، وغيرهم. وأما ثانيتهما فتمثلت فى مولد نبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام، والذى احتفت به الدار على كل مسارحها بتقديم ما يليق بالمناسبة من عروض فنية وأغانٍ لفرق الإنشاد الدينى. وهكذا عبرت الدار عن تنوع مصر وحيويتها وتفتحها، بإلهام فنانة مصرية قديرة تعلمت بفرنسا، ووعت الفن الغربى، قبل أن تضع نفسها فى خدمة بلدها، حيث كان اختيارها لموقعها صدفة رائعة، ولكنها نادرة الحدوث فى مصرنا، فماذا لو أحسن القائمون على أمورنا اختيار الأشخاص النابهين لكل المواقع؟ وكيف تكون مصر لو أن بها مليون شخص موهوبًا، كإيناس عبد الدايم، يجلسون على مقاعدهم المناسبة لهم، وبالغة الأهمية لمجتمعهم؟