فى عام 1956 كانت مصر خارجة من معارك دامية ساخنة مع تيارات فى الداخل، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك فى الخارج بعد محاولات الاستقلال السياسى والاقتصادى، خصوصًا بعد تأميم شركة قناة السويس، وإعلانها شركة مصرية عالمية مساهمة، ولذلك كانت الصحافة ومانشيتاتها تخرج على الناس فى عناوين تعكس مثل هذا المناخ الحاد، من صخب وعنف وتكسير عظام وتحليلات سياسية متجهة، حتى رسوم الكاريكاتير التى كان يرسمها طوغان وعبد السميع وزهدى وحاكم وغيرهم، كانت لا تستطيع الإفلات من هذا المناخ. وفى ظل هذه الحالة السياسية، والتعبير عنها فى التعبيرات الفنية والصحفية والثقافية والإبداعية، كان هناك فريق من الكتاب والرسامين والمبدعين الشباب، يتكون وينمو فى مؤسسة روزاليوسف ، تحت قيادة الأستاذ والكاتب الصحفى إحسان عبد القدوس، برعاية والدته العظيمة فاطمة اليوسف، ولم يجد هذا الفريق آليات التعبير الواسعة والحرة والمستقلة بين كل هذه الوجوه الفنية والأدبية الغاضبة. لذلك قررت السيدة فاطمة اليوسف إصدار مطبوعة جديدة تعبر عن هذه الروح التى انبثقت فى المناخ، وتبحث عن جسد مستقل يشبهها، وبيت خاص يحتضنها، ويحمى كل تجلياتها، ويدفعها إلى التطور والنمو والتقدم. ولذلك كله، جاءت مجلة صباح الخير ، وصدر عددها الأول فى 12 يناير 1956، لتوجد هذا الجسد الرشيق والأنيق والحيوى، بين هذه الأجساد التى كادت تترهل، حتى الذين انضووا تحت لوائها من الرعيل الأقدم، طغت عليهم الروح الجديدة، وكان الغلاف الكاريكاتيرى الأول للفنان الكبير زهدى ، وكان غلافًا فى حد ذاته هو العلامة الأولى للروح الجديدة، فالكاريكاتير عبارة عن امرأة ضخمة، تحمل مقشة وتخفيها خلف ظهرها، وتنظر إلى زوجها القابع فى البلكونة، ويضرب لها تعظيم سلام ، ويقول لها: صباح الخير، كاريكاتير بذل فيه عمنا الراحل زهدى كل جهوده، من أجل أن يكون مختلفا وهادئا وباسما عن حق. أما السيدة الراعية والمبدعة والشجاعة فاطمة اليوسف، فقد كتبت الكلمة الأولى فى العدد الأول، والتى جاءت تحت عنوان: صباح الخير، وقالت فيها: عندما أعلنت عن صدور مجلة صباح الخير بدأت الناس تسألنى: لماذا اخترت هذا الاسم بالذات؟ وكان هذا السؤال قد وجِّه إلىَّ من قبل، منذ ثلاثين سنة، عندما قررت أن أطلق على مجلتى روزاليوسف ، وكنت فى تلك الأيام أرد على السؤال قائلة: لقد اخترت أن أطلق على مجلتى هذا الاسم، لأنه الاسم الذى أتفاءل وأعتز به، والذى يعبر عنى أصدق تعبير.. فالاسم الذى اقترن بما أحرزته يومًا على خشبة المسرح، فرأيت أن أنقله معى إلى ميدان الصحافة.. فمهما كانت الظروف، أشعر دائمًا مع كل صباح بأننى قوية، مبتهجة، مشرقة، وأشعر دائمًا مع كل غروب بوحشة وكسل وشحوب.. بل بانقباض.. و صباح الخير تحية فيها إشراق الصبح، وفيها أمنية الخير.. وهى تحية لقاء اعتدت أن أوجهها كل صباح إلى أولادى.. وإلى أصدقائى، وإلى العاملين معى.. فأحببت أن أوجهها إلى قرائى أجمعين . وكتب كذلك إحسان عبد القدوس حكاية افتتاحية، وظل هذا التقليد معمولًا به طويلًا فى المجلة، وبجوار الحكاية الإحسانية، جاء كاريكاتير الفنان الشاب صلاح جاهين، وهو عبارة عن فتى وفتاة فى نادى العراة، ويجلسان تحت شجرة عاريين تمامًا، وبينما تحمل الفتاة وردة جميلة، كان حبيبها يقول لها أنا مش عاجبنى فيكى غير أناقتك! .. ثم بعدها مجموعة رسومات فى حكاية، وإن كان هذا التقليد قد رسخته مجلة روزاليوسف من قبل، إلا أنه يأخذ طابعًا جديدًا، والذى يطالع هذا العدد الأول التاريخى، سيلاحظ أن كل صفحة فيه تحمل ابتسامة وتنطوى على رسمة كاريكاتيرية، ونفسًا جديدًا ينتشر على صفحات حديقة صباح الخير . وكتب إحسان مرة أخرى فى المجلة صباح الخير- العدد الأول ، ليشرح كيف ولدت فكرة المجلة منذ خمس سنوات قبل صدورها، وأشكال المعاناة التى واجهتهم حتى صدر هذا العدد: لقد فكرنا كثيرًا.. واستعرضنا كل شىء حولنا.. ووضعنا مئات من الماكيتات، خطوطًا على ورق أبيض، نحاول أن نرسم بها خيالنا، ثم جمعنا -النجارين- وكل ما اشترطناه فيهم أن يكونوا فنانين، وأن يكونوا مثلنا فى حماسهم وإيمانهم، وأن يؤمنوا معنا بالمستقبل.. ثم بدأنا عملية التنفيذ . وكتب رئيس التحرير الشاب أحمد بهاء الدين، والذى كان له حضور صحفى بارز، فى الصحافة الثقافية والفنية والسياسية والفكرية كذلك، إذ كتب فى العدد الأول مقالا عنوانه كل عين لها ثمن ، وهو مقال خفيف يتناول قضية عميقة وثقيلة، وكان هذا هو الطابع للمجلة، تناول قضايا عميقة وشائكة، ولكن فى أسلوب رشيق وسلس، دون إخلال بالمادة الفكرية أو السياسية التى تنطوى فى ثنايا المكتوب والمرسوم. وذهب محمد عودة ليكتب موضوعًا طريفًا، وهو عبارة عن رحلة فى أعماق الدكتور نجيب محفوظ، وكعادة محمد عودة، فدائمًا له استهلالات جذّابة وشيقة، ويبدو على هذه البدايات كأنها منفصلة عن الموضوع، وسرعان ما نكتشف الصلة العميقة بين المقدمة والنتائج التى تترتب عليها فى النتائج التالية، وهذه إحدى آليات محمد عودة العظيم الذى بدأ مقاله ب: المرأة التى تحب الشاعر الذى يمجدها، والفنان الذى يتغنى بجمالها، ولكن فى قلب كل امرأة ركن مضىء، لرجل ثالث يقف إلى جانبها وفى أمجد لحظات حياتها.. وهو طبيب الولادة . وبعد ذلك تنطلق كل معانى الجمال من مساحات المقال المختلفة، للتعريف بالدكتور نجيب محفوظ، الدكتور الأشهر فى ذلك الزمان. وتتالى الموضوعات، التى تنم عن أن الدماء الشابة أصبح لها هذا البيت الخاص والمستقل والرشيق، والذى تبدو عليه علامات الخفة والظرف والفن والجرأة والسبق الصحفى، والثقافة المختلفة، فيكتب أبو العينين الفنان عن سر الخجل ليلة الزفاف من وجهة نظر سيمون دى بوفوار، ويكتب أحمد عباس صالح عن صفحات مطوية من البردى، وينشىء مصطفى محمود بابه الجديد اعترفوا لى! ، وظل هذا الباب طويلًا، وكان من الموضوعات الأكثر قراءة، وكتب حسن فؤاد الفنان موضوعًا مثيرًا تحت عنوان صوت أم كلثوم جنى على السنباطى ، وهذا مما باح به الملحن كمال الطويل له.. وهكذا وهكذا من الموضوعات التى أعلنت وبقوة عن ولادة طبيعية لصحافة جديدة، أبدعت أجيالا تلو أجيال منذ عهد أحمد بهاء الدين، حتى الشاعر جمال بخيت، كل عام أنتِ فى جمال دائم يا صباح الخير .