أطلقت مناشدة الرئيس السيسى لعلماء ودعاة الأمة فى ذكرى المولد النبوى، ضرورة تحرير المفاهيم الصحيحة لهذا الدين، موجة من الهجوم المعتاد من جماعة الإخوان والمنابر المحسوبة عليها، حيث تعتبر الجماعة نفسها الوصية على تصورنا عن الدين، وتحرس هذا التصور من أى استدراك أو تعديل أو انتقاد، قد يهدد الأسس الفكرية لمشروعها السياسى، الذى اعتمد على تأبيد الالتباس بين الدينى والسياسى، وترك الخطوط بينهما غير محددة الملامح، بما يترك لهم حق التفسير والتأويل للنصوص الدينية لتبقى خادمة لتوجهاتهم وأهدافهم. ماذا قال الرئيس عبد الفتاح السيسى؟ وهل تورط الرجل فى إنكار ما هو قطعى الثبوت قطعى الدلالة؟ أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو أنكر أحد فرائض الإسلام؟ أو أساء إليها على حد ما ادعت جماعة الإخوان والمنابر المحسوبة عليها؟ لقد استمعت إلى كلمة الرجل من أولها إلى آخرها، فى ما ورد فيها من نصوص مكتوبة أو مرتجلة، والتى دارت جلها حول تأكيد شمائل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، خصوصا الرحمة وحسن الخلق والإتقان والأخذ بالأسباب والصدق والأمانة، والحرص على التعليم وتحكيم العقل الذى هو مناط التكليف والجد وعدم التواكل، وضرب الأمثال بدول متقدمة فى التعليم والصناعة، ثم أردف باستفهام استنكارى هل يتوافق حالنا مع ما دعا إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، من قيم وأخلاق؟ هل يرضينا حال الطريق الذى نمشى عليه؟ هل أوضاعنا الاقتصادية تحتمل أن ننجز أمرا أو مشروعا ثم نعود لتكراره؟ وأردف بالحديث عن واقع أمتنا الإسلامية، مستفهما هل فهمنا عن ديننا أنه يحثنا على الغارة على الدنيا، بحيث يبقى مليار ونصف المليار فى حالة عداء دائم مع باقى سكان الأرض؟ كيف يستقيم ذلك مع ما قاله رسولنا الكريم إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ؟ وصدق حاكم المطيرى، القيادى السلفى الكويتى، الذى يقول إن الوحى السماوى أو الإسلام مر عبر تاريخنا بثلاثة أطوار، سمى الأول منها الوحى المنزل، وهو الدين الحق الذى أنزله الله تبارك وتعالى، فلم يتعرض لتحريف أو تأويل أو تبديل، ثم الوحى المؤول الذى خضع لتفسيرات الأهواء، وأخيرا الوحى المبدل الذى لم يقترب فى نصوصه ولا مراميه من المنزل أو حتى المؤول الذى كان يقترب أو يبتعد من حقيقة الدين. لم يهاجم أحد المطيرى فى ما ذهب إليه، وهو حق، ورأى يعكس غيرة صاحبه على دينه، وكذلك الرئيس السيسى فى كلماته التى كانت تقطر أسى، وهو يقول الأمة تتمزق تُدَّمر تأملوا واقع داعش فى سوريا والعراق وكل مجموعات التطرف والأرهاب، أليس لديها من تلك النصوص التى تحدث عنها ما يدعم موقفها الأخلاقى فى عيون أنصارها. هل ينكر أحد أن علوم الدين ظلت بحاجة إلى التجديد، حتى إن تجديد علوم الدين صار اسما لأهم مؤلفات أبى حامد الغزالى الذى سمى كتابه إحياء علوم الدين ، ولم يتهمه أحد بالمروق أو الكفر، ألم يذكر النبى الكريم أن الله يرسل على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها وقد تضمنت كلمة الرئيس السيسى أيضا هذا المعنى؟ ما يدعو إليه السيسى هو مقاومة الركود الذى اعترى عقل المفكر المسلم والمؤسسة الدينية التى ناشد رأسها ممثلا فى الأمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر هذا العالم الجليل المفكر المستنير، أن يتقدم لإصلاح المؤسسة والخطاب بالتعاون مع علماء الأمة وهو يلقى كل الدعم من مؤسسة الرئاسة، التى تدرك أهمية الأمر وتهتم به على نحو بدا فى مفردات الأسى فى حديث الرئيس والشفقة على دين أتى رحمة للعالمين، فحولناه -على حد تعبيره- إلى مصدر للقلق والخطر ومعاداة الدنيا كلها، هناك شىء ما خطأ لفت الرئيس ولفت قبله وبعده عديد من مفكرينا، لا بد أن يتم التعامل معه، لذا كان الرئيس واضحا فى وضع المسؤولية فى مكانها الصحيح، الأزهر الذى توقفت مسيرته طويلا، وآن له أن يباشر مهمته المقدسة فى تجديد علوم الدين، بما ينتج خطابا دينيا عصريا يتصل بالدنيا والعصر، ويضع المقياس الصحيح الذى يفرق به المسلم بين العبادات القاصرة التى يقف نفعها عند صاحبها، والعبادات المتعدية التى يغمر نفعها الدنيا حول المسلم، ويضع الوزن المناسب لكل منهما فى حياة المسلم والأمة، تحرير المفهوم الصحيح للجهاد الذى لا يعنى المجاهدة والمجالدة بالسيف للعالم بعد تقسيمه إلى فسطاطين، واحد للكفر وآخر للإيمان، بل يعنى بذل الجهد العلمى والتقنى والفكرى، لكى تبلغ الأمة أعز مكانة فى الاقتصاد والتعليم والتقدم التكنولوجى وتوفير أسباب الحياة الكريمة للمواطنين، وليس تصدير الإرهاب إلى الدنيا باعتباره مرادفا للجهاد. قضايا متعددة اقترب منها السيسى بجسارة المقاتل، وآن لنا أن تلتحم الإرادة السياسية بالإرادة الفكرية للأزهر وعلمائه ومفكريه، من أجل البدء بتلك الثورة الدينية، التى دعا إليها والتى دون البدء فيها مع الثورة السياسية التى تفتح أبواب السياسة على مصراعيها، فستذهب صيحات الإصلاح أدراج الرياح، ونعود لنبكى على الأطلال، كما اعتدنا دائما.