تتصدَّر أولوية إصلاح التعليم قائمة مطالب الخبراء والباحثين، باعتبارها من ضرورات اللحاق بركب المستقبل، لأنه دون إصلاح النظام التعليمى بشكل جذرى لن نتمكَّن من خلق الوعى المجتمعى ولا دعم نشوء نخبة جديدة أكثر نضجًا ومعرفة وقدرة على تطوير نوعية الحياة وترسيخ مفاهيم سياسية واقتصادية وفكرية وعلمية تدفع ببلادنا إلى الأمام على طريق التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدُّم العلمى والثقافى. لعل أخطر جريمة ارتكبها الرئيس الأسبق حسنى مبارك، هى إفساد التعليم وتحويله إلى مؤسسة لتفريخ العاطلين ومحدودى الكفاءة والمتطرفين والظلاميين والإرهابيين والعشوائيين والوصوليين والمنافقين. قليلون فقط هم مَن دخلوا تعليم مبارك وخرجوا محتفظين بعقولهم النقدية والمتحررة والقادرة على التفكير والإبداع. لقد شهدنا لعقود تجريف الشخصية المصرية عبر إهمال التعليم والصحة مصحوبًا بإعلام يمجِّد الرئيس ويشيد بحكمته ويتجاهل ملفَّى التعليم والصحة. بسياساته الجامدة والتقليدية، حافظ مبارك على سياسات تولِّد وتحافظ على الفقر من خلال السياسات التعليمية والصحية، حتى وصلنا إلى حالنا التى لا تُخفى على أحد. فى كتابه التأسيسى السياسة ، يقول أرسطو، إنه، وحتى لا تقوم الثورات، يعمل المستبد، أو الطاغية، على تصفية خصومه، ووأد كل حركة فى المهد ب القضاء على كل متفوّق يرفع رأسه والتخلّص من الرجال أولى الألباب، ومنع الموائد العامة والاجتماعات، وحظر التعليم، وكل ما يمت بسبب إلى التثور، أعنى اتقاء كل ما يؤتى عادة شجاعة وثقة بالنفس، ومنع ضروب الفراغ وجميع الاجتماعات التى قد يجد فيها المرء تسليات مشتركة، وعمل كل ما من شأنه أن يظل الرعايا يجهل بعضهم بعضًا، لأن العلاقات تجلب الثقة المتبادلة . إن قراءة متأنية للحوار الذى أجرته جريدة المصرى اليوم مع كمال مغيث، الخبير التربوى والباحث بالمركز القومى للبحوث التربوية، يبين ما وصلنا إليه من وضع متردٍّ، إذ يقول د.مغيث إن حال التعليم فى مصر لا تسر عدوًا ولا حبيبًا، ويرثى لها، وهذا ما تعبر عنه المعايير والجداول الدولية التى تقيس عناصر مختلفة من التعليم، مثل الجودة والإتاحة وتوافر الإمكانات التقنية، ومصر للأسف الشديد تحصل على مراكز متأخرة فى تصنيف تلك الجداول الدولية مقارنة بعدد كبير من الدول العربية المجاورة لنا، فهم على سبيل المثال تفوَّقوا علينا فى معايير الجودة، فنحن لدينا تعليم يتخرَّج فيه أفراد ليست لهم علاقة بسوق العمل، ومهارات الطلبة متدنية إلى أقصى درجة، وكل ذلك ينعكس على الثقافة الشائعة من حولنا. ونحن لدينا ميزانية هزيلة للغاية للتعليم، وكانت فى العام قبل الماضى نحو 60 مليار جنيه، وإذا تم توزيعها على عدد الطلاب نحو 20 مليون طالب يكون نصيب الطالب 3000 جنيه سنويًّا، وهذه نسبة محدودة جدًّا، خصوصًا إذا قارناها مثلاً بنصيب الطالب فى إسرائيل وهو 3500 دولار سنويًّا، أى ما يوازى 25000 جنيه، أى 7 أضعاف الميزانية المرصودة للتعليم فى مصر، وهذه النسبة الهزيلة لا يمكن أن تنتج تعليمًا فعالًا. ويظل بقاء نحو 35 مليون مصرى لا يعرفون القراءة والكتابة، حسب تصريحات د.محمود أبو النصر وزير التربية والتعليم، فى تصريحات لجريدة الوطن فى مطلع يناير 2014، دليلًا على هذا السقوط، خصوصًا إذا ما قارناه بالخبر المنشور فى صدر الصفحة الأولى من جريدة الأخبار بتاريخ 10 أبريل 2003، وجاء فيه أن اجتماعًا سوف ينعقد يومها برئاسة د.عاطف عبيد رئيس مجلس الوزراء، لبحث الصورة النهائية للخطة القومية لمحو الأمية، تمهيدًا لعرضها على المجلس، لمناقشتها، ثم إقرارها، والبدء فورًا فى تنفيذها. وطبقًا لمختلف التصنيفات المتخصصة تعد مصر دولة متخلفة ؛ إذ تقع جامعات ومدارس ومستشفيات مصر فى ذيل قوائم الترتيب العالمى. لقد أشار تقرير التنافسية العالمى لعام 2013، إلى أن مصر احتلت المرتبة الأخيرة بين الدول فى جودة التعليم الأساسى بحصولها على الترتيب ال148 من بين 148 دولة. أما الانحدار المستمر فى حال مستشفيات وجامعات مصر، إضافة إلى انتشار الأمراض فى صفوف ملايين المصريين، فإن ذلك من الدلائل الواضحة على غياب مقومات التنمية وعوامل التحديث فى مصر. الإمكانات المادية وحدها لا تستطيع فعل شىء، وكذلك الإرادة السياسية دون إمكانات مادية. نحن ببساطة فى حاجةٍ إلى الاثنين معًا. الروشتة التى يضعها د.كمال مغيث، وهو قامة كبيرة فى المجال التربوى، تستحق قراءة متأنية، إذ يرى أنه لا بد من إنشاء مجلس قومى للتعليم، قوى وفعال، يتكوَّن من خبراء وعلماء يدركون آليات التعليم ومشكلاته ويتّسمون بالكفاءة والوطنية والنزاهة. هذا المجلس يضع أهداف وآليات التعليم ويضع المناهج ويحدد للوزير السياسات، ودور الوزارة فقط ينحصر فى تنفيذ ما يقوم المجلس بوضعه من أهداف. لقد حان الوقت كى نعمل وبسرعة على زيادة ميزانية التعليم -فعليًّا وليس نظريًّا- من خلال مصادر متعددة، وربط مكافأة الامتحانات بتغيير نظام الإدارة إلى نظام الإدارة بالأهداف، وأن نتأكد أن المعلم يقوم بواجبه بشكل حقيقى، بعد أن نعطيه راتبًا محترمًا، ونحتاج إلى أن تكون هناك فاعلية فى العملية التعليمية عن طريق إجراء الأبحاث والحاجة إلى استعادة الأنشطة داخل الفصل والاهتمام بها، بالإضافة إلى البناء على خبرات الطالب ومهاراته وإمكاناته، ونحتاج إلى تطوير منظومة الامتحانات التى تقوم على الحفظ والتلقين وننتقل إلى مهارات الإبداع والتحليل والتفكير، وإصلاح المناهج لتكون بعيدة عن تجاذبات السياسة. الحلول موجودة والأفكار متداولة.. بقى أن نبدأ قبل أن يكون الطوفان أقوى من الزورق والمجاديف!