للكاتب الكبير عبد الرحمن الخميسى كلمة تستحق أن نتأمّلها «عشت لا أعزف ألحانى ولكن أدافع عن قيثارتى»، إنها المؤامرات والضرب تحت الحزام اللذان يتعرض لهما فى العادة المبدع فى بلادنا، ويكتشف فى نهاية المشوار أنه بدَّد طاقته ليس فى الفن الذى نذر نفسه من أجله، ولكن فى اقتحام الحواجز والألغام، وتضيع أنغامه قبل أن تصل إلى الناس. الفن أم الحياة؟ هل يتفرَّغ المبدع طوال حياته لخلق عالمه الخيالى وتصديره للناس، وفى أثناء ذلك ينسى نفسه وعالمه الواقعى؟ أو بالأحرى هل يتحطَّم الخط الفاصل بين العالمَين، ولا يُدرك بعد أن يُغادر موقع التصوير أنه لا يزال محتفظًا بشخصيته الدرامية خارج جدران الاستوديو؟ كان النجم الراحل أحمد زكى يصف نفسه قائلًا: أنا بعيدًا عن الكاميرا مجرد شخبطة على الحيط ، حتى إنه عانى بعد تصوير فيلمه زوجة رجل مهم من آلام مبرحة فى المعدة، وكان تشخيص الطبيب أنها معاناة بطل الفيلم ضابط الشرطة، الذى أحالوه للتقاعد بسبب سوء استغلاله لموقعه الوظيفى، أُصيب أحمد بنوع من التماهى والتوحُّد مع العالم الافتراضى الذى صنعه فأصبح بالنسبة إليه هو الواقع. الإنجاز الفنى فى كل المجالات مع الزمن يتحوَّل إلى حياة بعد الحياة، تختلف توجهات النجوم، مثلًا ميريل ستريب التى رصع تاريخها بثلاث جوائز أوسكار و18 ترشيحًا، كما أنها ترشَّحت ل الجولدن جلوب 25 مرة، حصلت منها على 8، أرقام قياسية وغير مسبوقة، ورغم ذلك تابعوا ماذا قالت عندما سألوها قبل بضعة أعوام ما الذى تتمنّى أن يكتب عنها بعد عمر طويل، أجابت: لا أحب أن أرتبط بمجال عملى -تقصد أفلامها وجوائزها- ولكن شخصيتى أكثر الأشياء التى تتحدَّث عنى، ولهذا فأنا أريد تسجيل نفسى فى ذاكرة الناس كامرأة، وأحب أن يكتب على قبرى هذه الفنانة مثَّلت أدوارًا متعددة كانت بالنسبة إلى حياتها أدوارًا ثانوية ! ميريل لا تريد بالطبع أن ينسى الناس أفلامها، مثل كرامر ضد كرامر أو المرأة الحديدية أو ماما ميا أو عشيقة الملازم الفرنسى ، وغيرها، تريدهم أن يعتبروا كل ما حققته فى حياتها من أعمال فنية هو جزء مكمل للصورة، رتوش على اللوحة، أما اللوحة التى تعتز بها، فإنها الإنسان، تعيش تلك الحياة بكل تفاصيلها كأم وزوجة ومشاركة فى الوقائع السياسية والاجتماعية، المعنى المضمر هو أن البعض يستغرقه الفن عن معايشة الواقع، ينسى أنه إنسان خلق لكى يعمل ويسعد الآخرين، الفن ليس هو كل شىء فى الوجود، بالطبع الناس لا يعنيها فى نهاية الأمر هذا الفنان ما الذى فعله فى حياته، هل تزوج؟ هل أنجب؟ هل اهتم بتربية أبنائه؟ ما يعيش فى ذاكرة الناس هو بالتحديد ما قدَّمه من إبداع، أغنية، فيلم، مسرحية. الفنان فى مقياس الناس هو مشروع لإنجاز نغمة أو لوحة، إلا أنه فى مرآة نفسه عليه مسؤولية اجتماعية وسياسية، وهكذا مثلًا نرى الفنانين الكبار فى العالم يشاركون فى قضايا الوطن، بل وقضايا العالم كله، ألم يذهب مثلًا جورج كلونى إلى الكثير من المواقع الساخنة فى العالم، وأغلب النجوم العالميين تجد لديهم الحرص على الأنشطة السياسية والاجتماعية، التى يمارسون فيها العطاء بعيدًا عن الكاميرا، مثل أنجلينا جولى وبراد بيت وتوم كروز ونيكول كيدمان ومادونا، وغيرهم، بينما نجومنا يغيب عنهم غالبًا هذا الدور الاجتماعى. الفنان فى بلادنا يُبدِّد طاقته فى الدفاع عن قيثارته ويستنفد النصف الآخر فى ضبط أوتار القيثارة، ويرحل أغلبهم قبل أن يعزفوا ألحانهم، يموت الفنان مرَّتين، مرة لأنه لم يعش الحياة، والثانية لأن رسالته لم تصل إلى مستحقيها!!