بعض المبدعين الكبار وفى كل المجالات أشعر أن الله اختصهم بوميض من الموهبة لإسعاد الناس. إنهم يحملون مددًا من السماء فى النغمة والكلمة واللوحة، لا يقدمون لنا مجرد إبداع جميل، بل يتجاوزون تلك المعايير البشرية فى التقييم الفنى، شىء ما يملكونه يمس أرواحنا. أرى تماسًّا بين الإيمان والفن، خصوصا الموسيقى، أغلب الديانات ارتبطت طقوسها وشعائرها بالأنغام، الجملة الموسيقية هى أكثر الإبداعات شفافية وعالمية، فهى لا ترتكن إلى لغة لها دلالات مباشرة ولا هى مثل الفن التشكيلى تستند إلى ملامح شخصية أو طبيعية.. الموسيقى لغة عالمية تتجاوز حروف اللغات ومحددات الثقافات.. والفيلسوف شوبنهاور وضعها على رأس قمة الفنون، ولدىّ قناعة أنك عندما تزرع الجمال فى الحياة فإنك تزرع أيضا الإيمان فى القلوب، ويظل هذا الخير معك فى العالم الآخر، فهو رصيدك الذى لا ينفد من الحسنات، ولهذا تجد مثلا أن أغلب الموسيقيين قبل 70 عاما كانوا يحملون لقب شيخ، حتى الذين لم يرتدوا الجبة والقفطان، مسلمون أومسيحيون أو يهود كان بداخلهم شيخ أو قديس كامن وكثيرا ما تنضح فى إبداعاتهم لمحات إيمانية. ومن أكثر الفنانين الذين ملؤوا حياتنا إيمانا وجمالا الموسيقار محمد فوزى، أمس مر على رحيله 47 عاما، ودائما عندما يأتى اسم فوزى أتذكر تلك الحكاية التى رواها لى ابنه المهندس الراحل نبيل فوزى، وذلك عندما التقيت به فى أثناء تكريم اسم والده فى مهرجان الإسكندرية للموسيقى قبل نحو خمس سنوات، قال لى نبيل إنه التقى وقتها قبل أسابيع قليلة بمفتى الديار المصرية السابق د.على جمعة فى حفل خاص، وعندما عرف أنه ابن فوزى قال له حتى قبل أن يوجه له التحية «أبوك مع الأبرار والصديقين فى الجنة»، اندهش نبيل وقال للمفتى أبى كان يشرب الخمر، وأضاف أنا شاهدته بعينى عشرات المرات، قال له المفتى هل رأيته يمسك الكأس أم يشرب الخمر قال له يمسك الكأس وبعدها كأس، وهكذا حتى نهاية السهرة، أجابه ربما كان يجامل أصدقاءه لا تستطيع أن تجزم بشىء، وكرر عليه نفس العبارة «أبوك مع الأبرار فى الملكوت الأعلى»، وفى نهاية اللقاء طلب منه أن يرسل له أشرطته الغنائية، واعتقد نبيل أن الشيخ يقصد أغانى فوزى الدينية وما قدمه للأطفال وما ردده للوطن، وقال له سوف أحضر لك غدا «لبيك إن الحمد لك والشكر لك لا شريك لك» و«بلدى أحببتك يا بلدى» و«ماما زمانها جاية» و«ذهب الليل طلع الفجر» وغيرها متصورا أن المفتى لا يمكن أن يستمع إلى غيرها. قال له المفتى عظيم، ولكن أين أغانيه العاطفية، أحب له الأغنية التى يقول فيها «حاكم الزهور زى الستات لكل لون معنى ومغنى» وأيضا «تملى فى قلبى يا حبيبى وأنا عايش بعيد عنك» و«ويلك ويلك».. بالفعل أضاف «نبيل» كل الأشرطة العاطفية!! هل لاحظتم كيف يتقبل المفتى الأغانى العاطفية، بينما نرى أن الكثير من شيوخنا يحرمون علنًا الموسيقى، حتى ولو كانت فى أغنيات دينية، كم نتوق إلى هذه الرؤية التى تعقد صلحا بين الفن والدين. الله منح المواهب للبعض من عباده لكى يستمتع بها البشر أجمعون ويرددون فى نفس اللحظة الله.. الله، لم ألتق الموسيقار الكبير محمد فوزى، ولكن من حسن حظى أن اقتربت من ثلاثة موسيقيين كبار عرفوه وأحبوه هم كمال الطويل ومحمد الموجى وبليغ حمدى، وكل منهم يحمل له ذكرى لا تُنسى، فوزى كان أكبر من الطويل والموجى بما لا يزيد على خمس سنوات ويصل إلى نحو خمسة عشر مع بليغ، ورغم ذلك لم يشعر بالتنافس معهم، كانت له مواقفه المشجعة لكل هؤلاء والتى ترسم ملامح مميزة للفنان والإنسان معا وكل الذين عاصروه أكدوا أن روح فوزى التى نراها فى أفلامه وتنضح على ألحانه هى بالضبط معبرة عن فوزى الذى عايشوه. عندما يأتى اسم فوزى أتذكر هذه الحكاية التى رواها لى المهندس نبيل فوزى، وكم أتمنى أن يرويها لنا المفتى يوما ما، نعم محمد فوزى يطل علينا من الجنة!!