هذه الأيام احتفلنا بعيد الميلاد الثانى والثمانين للموسيقار الكبير بليغ حمدى، كان بليغ له نصيب وافر من اسمه فهو بقدر ما كان غزيرًا فى إبداعه كان أيضا بليغًا فى أنغامه. قدم بليغ ليس مئات بل آلاف الألحان المبدعة العابرة للزمن، الكثير منها تجاوز نصف قرن ولا تزال تنبض بالحياة، ويبقى فى المشوار لحن أثار العديد من التساؤلات وأيضا الشائعات.
قبل نحو 50 عامًا وبمجرد غناء أم كلثوم رائعتها «أنساك ده كلام أنساك يا سلام أهو ده اللى مش ممكن أبدًا» التى كتبها مأمون الشناوى ولحّنها بليغ حمدى رسم صلاح جاهين كاريكاتيرا على صفحات جريدة «الأهرام» يقول فيه متهكما: أهو ده اللى مش لحنك أبدًا يا «بليغ»!
ظل الأمر غامضًا، صلاح جاهين وبليغ حمدى جمعتهما جيرة بل وُلدا فى نفس العام وذات العمارة وكانا يلعبان معًا على بَسْطة السلم ويتسلقان نفس الدرابزين، لماذا إذن يتهمه بالسرقة. مَن الذى لحَّن ومَن المسروق؟! قيل وقتها إن الشيخ سيد مكاوى صديق صلاح جاهين هو الذى أوعز إلى صلاح بهذا الكاريكاتير وكان يقصد أنه صاحب اللحن الأصلى.
مرّ زمن وماتت الشائعة بسبب تعدد نجاحات بليغ قبل وبعد «أنساك»، ليس فقط مع أم كلثوم بل مع كل الأصوات، فهو واحد من أهم ثلاثة ملحنين فى جيل ما بعد محمد فوزى، الاثنان الآخران هما كمال الطويل ومحمد الموجى، أيضًا بليغ هو الأغزر إنتاجًا بين كل ملحّنى الموسيقى الشرقية فى العالم العربى لا ينافسه سوى الموجى فى الغزارة.
قبل نحو عامين وعلى موجة إذاعة إحدى المحطات الغنائية استمعت إلى عازف الأورج ورئيس اتحاد النقابات الفنية حاليا هانى مهنّا وهو يعيد مجددا مرة أخرى فتح هذا الملف خصوصا أنه يعدّ آخر العازفين الذين التحقوا بفرقة «أم كلثوم» قبل أن تعتزل الحفلات فى مطلع عام 72، هانى أكد نقلًا عن أم كلثوم أن الشيخ زكريا أحمد هو الذى لحّن المقدمة والمقطع الأول لأغنية «أنساك» وأن بليغ أكملها بعد رحيل زكريا.
والحقيقة التاريخية التى لم يذكرها مهنَّا هى أن بليغ لم يكن هو الملحن التالى للشيخ زكريا أحمد الذى كان هو أول من اختارته بالفعل أم كلثوم لتلحين الأغنية، بعد أن ذاب جبل جليد الخصام بينهما الذى امتد 15 عاما وعادا للقاء فى «هوّ صحيح الهوى غلّاب» وكانت «أنساك» هى المحطة التالية، حيث إن كاتب الأغنية مأمون الشناوى بعد رحيل الشيخ زكريا رشَّح فى البداية سيد مكاوى للتلحين على اعتبار أنه تلميذ نجيب فى مدرسة الشيخ إلا أن أم كلثوم لم تتحمس للحن سيد مكاوى -الذى كان يحمل وقتها أيضا لقب الشيخ- بعد أن استمعت إليه كاملًا، فكان المحطة الثالثة للأغنية هو محمد فوزى بترشيح من أم كلثوم فى أول لقاء يجمع بينهما، وشرع فعلًا فوزى فى التلحين، وأرادت أم كلثوم أن يسرع بالتلحين حتى تلحق موعد الحفل فاعتذر عن استكماله ورشَّح لها تلميذه بليغ حمدى الذى كانت أم كلثوم قد غنَّت له من قبل «حب إيه» وكان فوزى هو أول من قدَّم بليغ لكوكب الشرق فى سهرة أقامها فى منزله، أنجز بليغ اللحن فى بضعة أيام.
وكان سيد مكاوى بعد مرور أسابيع قليلة على رحيل بليغ حمدى فى نهاية عام 1993 قد صرح فى أحد البرامج التليفزيونية بأنه صاحب لحن «أنساك».. أتذكر أننى سألت الشاعر مأمون الشناوى فقال لى: نعم صديقى الملحن العبقرى سيد مكاوى لحَّن «أنساك» ولكن اللحن الذى قدمه بليغ مختلف تمامًا، وأن بليغ لم يستفد من لحن سيد مكاوى، أما زكريا أحمد فلقد مات قبل أن يشرع فى التلحين ولهذا فلا يوجد لحن ولا مقدمة، أما الوحيد الذى ترك بصمة واضحة على لحن بليغ حمدى وكان ذلك بموافقته ورغبته فإنه محمد فوزى وتحديدًا فى المقطع الذى تقول فيه «ده مستحيل قلبى يميل ويحب يوم غيرك أبدًا.. أبدًا».
وربما تسأل: لماذا لم يطلب فوزى أن يضع اسمه على اللحن بجوار بليغ؟ أقول لك إن فوزى هو الأستاذ، ومثل هؤلاء العمالقة عندما يمنحون شيئا لتلاميذهم لا ينتظرون أى مقابل أدبى أو مادى؟!
هذه هى حكاية «أنساك» كما رواها لى شاعر الأغنية مأمون الشناوى مع تسليمى بالطبع أن من حق الآخرين أن يذكروا روايات أخرى!