فى 5 يناير عام 1961 مات الشاعر والزجال المعجزة محمود بيرم التونسى فقيرًا، مات متأثرًا بمرض الربو الذى فتك به، هذا المرض الذى كان مكافأته عن أيام التشرد والضياع فى تونس وفرنسا، بعدما طرده الملك فؤاد من مصر، ولم يجد مأوى يحميه من شر المرض والجوع والفقر والتسكع. وبعد عام من رحيله، وفى 4 يناير عام 1962، كتب صديقه أحمد يوسف محمد صفحة كاملة عنه استقبالًا لذكرى رحيله الأولى محتفلًا به وبإبداعه المتعدد فى معظم المجالات، وأكد يوسف أن بيرم التونسى الذى حارب الملك فؤاد، وهاجم الإقطاع والاحتكار بضراوة، وسخّر كل ما كتبه للتعبير عن روح الشعب، كان هو أول من حرّض على الاشتراكية من دون جميع شعراء العصر، وكانت قصيدته المنبوذين ، التى تحدث فيها عن مجموعة من الهنود الذين حوربوا فى الهند بضراوة، وكان يخاطب تلك الفئة التى كانت مضطهدة بين الشعب الهندى، حتى حماها وأكرمها زعيم الهند العظيم غاندى، منوّها بحالة الشعب المصرى التى يشبهها فى العهد الماضى أيام كان الاحتلال الإنجليزى جاثمًا على صدر البلاد، وأيام كانت الفوضى متفشية والشعب المسكين يعانى من الحرمان، بينما يحتكر أصحاب السلطان أرزاقه ويتحكم الناهبون والمستغلون فى مرافقه . وربما تكون أشعار بيرم صالحة لكل زمان ومكان، ما دامت الأوضاع متشابهة ومتكررة، وبشكل يكاد يكون أبشع، وأنا دوما آوى إلى أشعار هذا العظيم، وقد كتبها فى سحيق الزمان، وعندما أتلقاها أشعر وكأنها تعبر عن حالى وعن حال الشعب المضطهد أبدًا، وقد كتب عليه أن يشقى طوال عهود الرأسمالية البشعة التى تعوق بينه وبين سعادته، وتعد القصيدة التى أشار إليها صديق بيرم من عيون الشعر لديه، إذ يكتب فيها: (دى مصر فيها المنبوذين ملايين من منبوذين حافيين يلموا سبارس ومنبوذين ماسحين جزم دايرين ومنبوذين شبان معاهم شهايد حرم عليهم يدخلوا الدواوين ومنبوذين فى البيت عشاهم فلافل فى العيد.. وأيام السنة جايعين). وبيرم الذى ساط هؤلاء القتلة والناهبين، وأقلقهم وأفسد راحتهم، لم يكتفِ بكتابته عند أعداء الإنسانية والبشر فى الداخل، ولكنّ له فى هجاء الإنجليز أشعارًا وقصائد تجعله هدفا دائما لمطاردته، ومحاصرته، وقطع رزقه وأكل عيشه، وله فيهم صرخة مدّوية يقول فيها: (اتركونا ننتفع من خير بلادنا مش بلادكم واسمحوا نسبك حديدنا مش حديدكم والسماد عاوزين سمادنا مش سمادكم ياللى ناويين تدبحونا). إذن لم تكن دعوة بيرم إلى الاستقلال دعوة مجردة عن أحلام الاشتراكية والمجتمع العامل الفاضل، الذى يستمتع بخيراته، هذه الخيرات التى يستثمرها الاستعمار بمعاونة الخونة الرأسماليين الداخلين، هذه الرأسماليات التى تقدم -دوما ومن دون هوادة- الطبقات الكادحة والدنيا على مذبحها المدنس بكل أنواع الاستغلال البشع. بيرم التونسى الذى ولد فى حىّ السيّالة الشعبى، والذى لم ينجح فى شىء سوى مقاومة الطغاة بكل أنواعهم، وهو قد فشل فى التجارة، ولم يستطع الاستمرار فى الصحافة لأنه لم يصمت فى مواجهة سلطة الملك فؤاد، وهجاه وفضحه واستنهض المصريين لمقاومة كل هذه الأشكال الكريهة التى تستبد به وتنهبه وتفتك بمصيره، وكان دومًا يخاطب هذا المصرى بالوقوف فى مواجهة هؤلاء، ولن ننسى نداءه الحار للمصريين عندما قال: (يا مصرى ليه ترخى دراعك والكون ساعك ونيل جميل حلو بتاعك يشفى اللهاليب خلق إلهك مقدونيا على سردينيا والكل زايطين فى الدنيا ليه انت كئيب ما تحط نفسك فى العالى وتنباع غالى وتتف لى عاللى فى بالى من غير ما تعيب). هكذا كان بيرم يكتب ويقاوم ويفنّ ويبدع ويمتع، ولكنه كان يلقى حروبا شعواء، فهو الذى كتب الشعر والزجل والأوبريت والسيناريوهات والمسرح والمقالات والفوازير، ورغم ذلك عاش فقيرًا، وظل يعمل حتى رحل متأثرًا بوضعه الصحى المتردى، وكان يذهب إلى دار الإذاعة حتى يسجّل بعض أشعاره، وهو الشاعر المعجزة والعبقرى، وكان هذا فى الأيام الأخيرة من حياته، وهناك من التقط له صورة وهو يستريح على السلّم من شدة التعب والإرهاق، وكان من الممكن أن تنقذه الدولة من هذا الوضع الإنسانى البائس. وبالطبع كان هناك من يحاربونه فى الفاضية والمليانة على حد تعبير عمّنا صلاح جاهين، وأعتقد أننا لن ننسى قصائده التى كتبها على منوال النصوص القرآنية، ليس تقليدًا، وليس ادعاء لأى شىء، سوى استخدام النغم القرآنى، والتراتب اللغوى، وحينئذ قامت الدنيا ولم تقعد، وكان هناك من يحرّك المعارك ضد بيرم، وضد أشعاره التى تستعصى على الحصر والجمع، وهناك مشروعات مؤجلة دوما لجمع تراثه من عشرات الصحف التى كتب فيها دون تنفيذ حقيقى، ودون جدّية. بيرم الذى حورب فى أكل عيشه، وهو الذى هاجم كل أعداء الإنسانية، كان يكتب للأفلام السينمائية من أجل العيش، وكتب الفوازير كذلك من أجل أن يستمر فى الحياة، ولم يجد طوال حياته اليد الحانية التى تنتشله من هذا الشقاء، وكاد أن يتحول إلى مصلح اجتماعى فى أشعاره، وله فى ذلك الكثير، ومن بين هذه الأغنيات أغنية الطفل مين يرحمه التى غنّاها محمود شكوكو وشفيق جلال فى فيلم عودة طاقية الإخفاء ، التى يقول فى مطلعها: (الطفل مين يرحمه ولا يحنّ عليه واللى رموه للمصايب والشقا والديه ينظر إلى الناس ويشكى لوعته بعينيه لا الناس بتعطف ولا هو يمد إيديه...). ولكن أقسى ما كتبه بيرم وحزّ فيه نفسه أغنية يحيا الملك ، التى لحنها محمود الشريف فى فيلم أنا وابن عمى ، وكانت الأغنية تحمل دعائية لشركة الكينا ، واضطر إلى أن يمدح فيها الملك فاروق، ابن الملك فؤاد الذى شرده وطرده من البلاد، يقول بيرم فى مطلع هذه الأغنية: (يحيا المليك مليك الأمة اللى ما تعلى عليه همة يوم عيده جانا يواسينا جايب معاه علب الكينا ماقلناش اعملوا زينه ولا تغنينه يحيا الملك كانت ملاريا عماله تهلك نسا على رجاله لولاك يا صاحب الجلالة كنا فنينا يحيا الملك...). وما كتبه بيرم فى هذا الشأن لم يكن غريبًا على أعلام وشعراء وطنيين ومثقفين، ولكنه كان غريبًا على بيرم التونسى نفسه، الذى لم يعرف هذه الألوان من الكتابة، ولكننا علينا أن نتعرف على كل أشعاره وأزجاله ومقالاته التى كتبها على مدى خمسين عاما من الثقافة والفن والنضال والحياة والتشرد.. فيا وزارة الثقافة، ويا مؤسساتها العملاقة الضخمة، ويا مثقفى وكتّاب وباحثى ومؤرخى هذا البلد، نحتاج إلى لجنة لجمع تراث هذا الشاعر العظيم حتى نردّ له ولأنفسنا بعضًا من مجدنا الذى يضيع بالإهمال والنسيان.