يحكى مسعود بن حراش: «بينما أنا أطوف بين الصفا والمروة فإذا بشاب موثقة يداه إلى عنقه ووراءه امرأة تذمره وتسبه، ولما سألت قالوا: هذا طلحة بن عبيد الله قد صبأ، وهذه أمه الصعبة بنت الحضرمى، و...». كان طلحة حينذاك فى السادسة والعشرين، حسن الوجه، غزير الشعر، أبيض يضرب إلى الحمرة، مربوعًا أقرب إلى القِصَر، رحب الصدر، عريض المنكبين، إذا التفت التفت جميعًا، ضخم القدمين.. يهمنى فى هذا الوصف ملمحان فقط إذا مشى أسرع ، و إذا التفت التفت جميعًا ، فالأولى تشير إلى حالة الحماسة والاندفاع التى كان عليها الزبير أيضًا، وربما توحى للبعض بقدر من البراجماتية والمهارات الحركية على حساب التأمل ، وهذا الإيحاء يدعمه ملمح جسدى يتعلق ب ضخامة القدمين ، الملح الثانى يخص العلاقة بين وجهة النظر و اتجاه الجسم ، (إذا التفت إلى ناحية ما، فلا يكفى أن يلتفت بعينيه أو حتى برقبته، بل بجسمه كله، وهذا يعنى أنه لا يعرف أنصاف الحلول، ويميل بكل ما لديه ناحية وجهة نظره. أما قصة إسلامه فترسم لنا ملمحًا جديدًا لشخصيته الغائبة الحاضرة ، حيث يقول: كنت فى أحد أسواق البصرة، عندما سأل أحد الرهبان: هل فيكم أحد من أهل الحرم؟ قلت: نعم، فسألنى: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: أحمد بن عبد الله بن عبد المطلب.. هذا هو الشهر الذى يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهجره إلى نخل وحرة وسباح، فليتك تسبق إليه. وقع فى قلبى ما قال الراهب، وعندما عدت إلى مكة، وعرفت أن أبا بكر اتبع محمد بن عبد الله الأمين، ذهبت إليه وأخبرته ما قال الراهب، فأخذنى إلى رسول الله، وأسلمت . هكذا اتخذ طلحة قراره بسرعة، وكالعادة لم نجد أى معلومات عن معتقداته وقراءاته قبل لقائه بالراهب، كأنه تعمد هذا الكتمان الذى طبع مسيرته كلها بالغموض، لكن الرواية الشائعة عن إسلامه تقول إنه أسلم على يد ابن عمه أبى بكر الصديق، بعد فترة من إسلام الزبير، (الذى أسلم على يد الصديق أيضًا)، واستفز هذا الأمر نوفل بن خويلد عم الزبير الذى كان يعذبه بالنار ليترك الإسلام، وكان نوفل شقيق السيدة خديجة من أشد المشركين عداوة للإسلام، وكانت له مهابة عظيمة ويطلقون عليه أشد قريش أو أسد قريش ، فلما علم بإسلام طلحة ربطه بحبل، وطاف به شوارع مكة، ثم اقتاده إلى بيت أبى بكر وأوثقهما معًا وعذبهما طيلة النهار حتى توسط سادة قريش فأفرج عنهما فى الليل، ومنذ ذلك اليوم سُمى طلحة وابن عمه أبو بكر القرينين ، ولما كانت موقعة بدر لم يشارك فيها طلحة، لأنه كان فى تجارة إلى الشام، وقيل إن الرسول (عليه الصلاة والسلام) أرسله مع سعيد بن زيد فى مهمة استطلاع خبر العير (قافلة كانت تحمل بضائع لقريش من الشام)، لكن هذه الرواية تتناقض مع المنطق الزمنى وتتعارض مع روايات أخرى، والأرجح أن طلحة كان فى تجارة بالشام، وهذا لا يمنع أنه من خلال موقعه هذا يمكنه استطلاع أخبار القافلة التى حرص أبو سفيان على إخفاء مسارها حتى لا يستولى عليها المسلمون كما كان مخططًا بالفعل، ويعنينا هنا أن الروايات كلها أجمعت على عدم مشاركة طلحة فى غزوة بدر، واقتصرت الاختلافات على تفسير سبب غيابه (التجارة أم الاستطلاع)، وهذا لا يمنع وجود ملابسات أخرى لم نجد لها أثرًا فى روايات المؤرخين، مثل علاقة طلحة بالسيف، على عكس صديقه الزبير الذى كان فارسًا وقائدًا للميمنة فى استطلاع خبر العير، وفى غزوة بدر أيضًا التى قتل فيها عمه عمير، ومعذبه نوفل بن خويلد، والأهم فى ذلك اليوم العظيم فى مسيرة الإسلام أن على بن أبى طالب قتل بسيفه أخوى طلحة (عثمان ومالك)، فهل ترسبت مشاعر المرارة فى قرارة اللا وعى داخل نفسية طلحة؟ وإذا كان هذا الموقف بمعايير زماننا محرجا، فهل كان كذلك فى الجاهلية؟ وهل تجنب طلحة معركة بدر حتى لا يقتتل وجهًا لوجه مع أشقائه وذويه؟ للحديث بقية..