لم تكن حادثة قتل الطبيب المصرى مجدى صبحى وزوجته سحر طلعت وابنتهما كاترين فى ليبيا هى الحادثة الأولى، والأرجح أنها لن تكون الحادثة الأخيرة التى يتعرض لها مصريون فى الأراضى الليبية بهذه البشاعة. قد تتعدد أسباب استهداف المصريين هناك ما بين السياسية والجنائية والطائفية، لكن المؤكد أن حالة العداء للمصريين المنتشرة، خصوصًا بين الميليشيات الإسلامية التى تسيطر على مساحة معتبرة من الأراضى الليبية، صارت أمرًا واقعًا لا بد أن يوضع فى حسابات السلطات المصرية، وهى تفكر فى مصير ومستقبل مواطنيها فى ليبيا إن كان يشغلها الأمر، ويوضع فى حسابات كل من يفكر فى الهروب من مصاعب الحياة فى مصر إلى جحيم فى ليبيا وسط بلاد تتنازعها الميليشيات، ولا تملك الحكومة المدعومة من مصر من الأمر كثيرًا. الثابت كذلك أن الأقباط المصريين أكثر عرضة للاستهداف بفعل المناخ الطائفى وسيطرة الأفكار الداعشية على الميليشيات هناك، هذه الأسرة ليست أول أسرة قبطية تتعرض للأذى هناك، والطفلة كاترين التى كانت تدرس فى إحدى المدارس الليبية بالمرحلة الإعدادية جرى خطفها وقتلها بعد أن أراد الميليشياوية فرض الحجاب عليها ولم تستجب لتحذيراتهم. وسياسيا، كل الميليشيات التى تقاتل الحكومة الليبية ولا تعترف ببرلمان طبرق هى ضد مصر بالأساس بسبب الدعم المصرى السياسى واللوجيستى للحكومة والبرلمان والجيش الوطنى الليبى، وعلى أرض الواقع يدفع المصريون أثمانًا باهظة لهذا الانفلات الأمنى والاقتتال وتلك النزاعات الطائفية، وهذه الفاتورة السياسية التى خلقت عداء مستحكمًا بين هذه الميليشيات المتطرفة وكل ما هو مصرى. هذا المشهد الواضح تمامًا لم يدفع الحكومة لتخبرنا عن سياساتها لتأمين المصريين هناك، فالخارجية المصرية سبق وأصدرت تحذيرات من السفر إلى ليبيا بسبب خطورة الوضع الأمنى، فماذا عن المصريين المقيمين بالفعل هناك والذين يرتبط عيشهم وتستقر أسرهم بالمدن الليبية؟ كيف يمكن تأمينهم؟ هل الحكومة مشغولة بذلك فعلًا؟ أم أن دورها يقتصر على شحن التوابيت والتفاوض لتسفير الجثامين لتدفن فى مساقطها؟ مع كل حادثة بشعة لا يظهر لك أى جدية فى التعاطى مع هذا الملف الخطير، أو حتى مناقشته لتعرف على الأقل هل تقدر الحكومة على تأمين مواطنيها فى ليبيا؟ إن كان ليس بيدها حيلة بفعل ضعف الحكومة الليبية وعدائها مع الميليشيات الأخرى، هل فكرت فى إجلاء رعاياها من مناطق الخطر التى لا تخضع لنفوذ الحكومة الليبية؟ هل فكرت فى إعادتهم من هذا المناخ الملتهب وتعويضهم بفرص عمل فى المشروعات الجديدة، أو منحهم أولوية تجذبهم من قبولهم العيش وسط النار هناك؟ إذا كانت ليبيا ملفا مهما بالنسبة إلى السياسة المصرية، وأحد التحديات الكبرى التى تواجه الأمن القومى المصرى، فوجود عشرات الآلاف من المصريين على الأقل حسب تقديرات القوى العاملة هناك، يجعل الدولة عليها مسؤولية بناء استراتيجية واضحة لتأمين هؤلاء أو إعادتهم فورًا. ما فهمته من تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية أن الحكومة لا تستطيع إجبار المصريين هناك على مغادرة ليبيا إلى خارجها أو العودة إلى مصر، وأنها لا تملك إلا أن تنبههم لتوخى الحذر ومغادرة مناطق التوتر، وهو أمر أيضًا يضع المواطنين أنفسهم فى صلب هذه المسؤولية، فإذا كانت حكومتهم لا تملك حلولا حاليا بفعل كل هذه العوامل، فلماذا يقبل مواطن مصرى أن يستمر فى مناخ معادٍ وأن يُعرض نفسه وأسرته لأخطار كبيرة؟ مهما كان الاستقرار المادى أو فرص العمل المتوافرة هناك، وعدم وجود مثيل لها فى مصر، فالأمر فى جميع الأحوال لا يستحق هذه المخاطرة الكبرى. إذا كان المناخ هناك معاديًا للأقباط ويضيق عليهم لأسباب طائفية، فلماذا يستمر قبطى فى العيش هناك؟ وإذا كان المصريون عمومًا منذ عزل محمد مرسى صاروا أعداء للميليشيات وهذه الميليشيات هى المسيطرة على مناطق وجودهم، فلماذا يستمرون وسط سلطة سلاح معادية وغير منصفة وتستسهل القتل؟ عودوا من ليبيا، أنتم هناك بلا ظهر من قانون أو مؤسسات، وخلفكم دولة بلا حيلة ولا رؤية. لا نريد مزيدًا من التوابيت والجنازات.