سمعنا وتربينا أن «خطأ الصغار كثيرًا ما يقع فيه الكبار»، ولكن على ما يبدو أن الزمان تغير ومعه تغيرت مفردات وقيم كثيرة، فاليوم أصبحت «أخطاء الكبار يتحملها لآخر الدهر صغارهم». ملحوظة.. رفضت البنت تصويرها أو حتى أهلها خوفًا من الفضيحة ففى أقصى شمال مصر، وتحديدًا فى إحدى القرى الفقيرة التابعة لمركز الحامول بمحافظة كفر الشيخ، يوجد بها نموذج واحد صارخ لما تم التحذير منه مرارًا وعلى مدار سنين طويلة خلت، إذ تجلس طفلة لم يتجاوز عمرها 14 عامًا، تحمل ألعابها وبقايا من ذكريات قليلة عن أيام قضتها بين جدران مدرستها، وبأحشائها جنين تشعر به، لكنها لا تعرف أنه سيخرج للنور ومعه الدليل القاطع على تفشي جهل مدمج بفقر ومعهما اندحار دور رجال الدين والتلاعب بقوانين سنتها الدولة لحماية الأطفال، أو هكذا أرادت الدولة وفشلت. كل ذلك ربما تعانى منه كثير من أسر تلك القرى القابعة فى شمال مصر ووسطها وجنوبها، ولكن ما يزيد الأمر قسوة هو أن تلد المرأة لرجلها أنثى، ومعها يظل الرجل فى انتظار أول طارق لباب بيته ليأخذ تلك الأنثى ومعها مسؤوليتها. "رومانة م .ع".. تبلغ من العمر 14 عامًا، أنثى مقهورة مغلوب على أمرها، حالتها "متزوجة"، وتحمل فى أحشائها جنينًا، كانت تلك بعض من بيانات الطفلة رمانة وفقًا لبطاقتها الشخصية التى لم تستخرجها بعد لعدم وصولها السن القانونى، وتعيش فى منزل ظاهره وباطنه يدل على أن رب الأسرة رجل يقبع فى قاع الطبقة الفقيرة الكادحة شأنه شأن الكثير من أبناء قريته والقرى المجاورة، تزوج صغيرًا، لم ينل حظه من التعليم، واكتسب خبراته الحياتيه من تجارب فرضتها عليه قسوة الحياة وقلة حيلته فى توفير بحبوحة يعيش فيها مع باقى أفراد أسرته. سمعنا عن "رومانة" وبدافع من الفضول انطلقنا لقريتها، وكانت الحيرة بأيهما نبدأ، بها.. أم بوالدها، وظللنا على تلك الحيرة إلى أن وجدنا والدها يجلس وحيدًا شاردًا أمام باب بيته، فقررنا أن تكون بداية معرفتنا بالقصة من خلاله. وبمجرد أن سألناه عن "رومانة" خرجت منه زفرة، ومعها دمعة، وتحدث بمرارة دون أن نطلب منه، فهو لازال يذكر ذلك اليوم، عندما جاءه جاره فى "ساعة العصارى" طالبًا منه مصاهرته، ورغم المفاجأة، إلا أنه قد اتخذ قراره بالموافقة، ولم يتبق إلا تحديد موعد الزفاف. وودع صهره الجديد، ودخل على عجل ليزف إلى زوجته النبأ، وبأن "رومانة" رغم سنها الصغير، ونحالة جسدها، إلا أنها مرغوبة كأنثى وجاء من يريدها زوجهة. بشعورين متناقضين تناقضت الزوجه مع زوجها، فالبنت لازالت صغيرة، فى المرحلة الثانية من تعليمها، وتسير فيه بتفوق، ربما كان الانتظار أفضل وغير ذلك فهى لن تتحمل مشقة بناء أسرة والتوفيق بين رغبات زوج وتربية أطفال، فحسم الزوج قوله: "الأنثى ليس لها إلا الزواج"، وعليه تقرر تحديد يوم الزفاف، ومعه إنهاء مسيرة "رومانة" التعليمية. تم الترتيب لكل ما يلزم الزفاف، ولكن أى مأذون هذا الذى سيوافق على مخالفة القانون، فالزوجان لم يبلغا بعد سن القانونية، إلى أن أدلى رجل بدلوه، واقترح أن يأخذ والده العروس إيصال أمانة على والد العريس، وعند وصولهما السن القانوني يتحرر عقد الزواج على يد مأذون، ونال هذا الاقتراح استحسان الجميع، ومعه تم الزفاف، وأصبحت "رومانة" بالفعل زوجه لطفل يكبرها بعام واحد. ولم يمر على الزواج سوى 7 أشهر، ودبت المشكلات بين الزوجين الطفلين، وعليه قرر والد العريس أن يقع الطلاق، ولتعود "رومانة" كما جاءت. عادت بالفعل "رومانة" لمنزل والدها، طفلة كما هى غير أنها مهددة بالطلاق، وفى أحشائها جنين سيخرج للنور بعد أسابيع قليلة، وبأى حال لن يستطيع الاقتراب من النوافذ القانونية للبحث عن حق طفلته الذي أهدره. بعد ذلك طلبنا منه أن نلتقى "رومانة" قليلًا ووجدناها رغم كل ما تعانيه إلا أنه لازالت تحتفظ بملامحها الطفولية، وحدثناها عن قصة زواجها فقالت إنها كانت تسير بخطى ثابتة فى مرحلة التعليم الإعدادى.. كانت من المتفوقات إلا أن أنها فجأة وبدون انتظار فوجئت ب "انتهائها الإجباري من التعليم" بقرار والدها التى فضل "سترتها" عن تعليمها، حياتها أشبه بسجن فهى لاتزال طفلة لكنها حرمت من حياة الأطفال، لا تأمل سوى حياة أفضل لكن هذا الحلم تلاشى. "رومانه، م، ع" تلك الطفلة التى تبلغ من العمر 14عامًا لم تتوقع يومًا أنها ستتخلى عن أمنيتها فى أن تكون طبيبة ولم تتوقع يومًا أن يطلق عليها لقب "مطلقة". تقول الطفلة: "أكره الكلام عن هذا الموضوع الذي يجعلني أشعر بالحزن فقد كنت في الصف الثانى الإعدادى من التعليم، لكنى فوجئت بأن والدى يجبرنى على ترك التعليم ليزوجنى من جارى الذى يكبرنى بعام واحد وغير متعلم، وكل ما كنت أعرفه عن الزواج أنه فستان وفرح وزفة، وعندما دخلت شقة الزوجية فوجئت بزوج قاسٍ معي، وتصرف معي بوحشية وشعرت أننى منهارة وتدهورت صحتي وكبرت رغبتي في الخلاص منه. "عاوزة أطّلق ومش عارفة وأنا حامل ومش عارفة أعمل إيه".. بهذه الكلمات استكملت رومانة حديثها وأضافت: أهلى طلبوا من زوجى الطلاق إلا أنه رفض بسبب عدم عقد قراني، وأهله يرفضون إعطائى جهازي ويقولون "روحوا المحكمة." وأضافت الطفلة المطلقة: "نفسى أخلص وأرجع أكمل تعليمى وأحقق أمنيتى بأن أكون دكتورة.. أنا كنت شاطرة فى المدرسة جدًا بس كل الظروف ضدى، فأنا حامل وسألت الطبيبة عن إمكانية إجهاضى لكنها رفضت، وزوجى يهددنى بالسجن فى حال الإجهاض وأنا الضحية بين كل هذه الظروف". "أعيش فى خوف حتى أننى أستيقظ من نومى فجأة فى الليل فى حالة رعب شديد بسبب هذا الموضوع".. جملة حزينة ختمت بها رومانة لخصت قصتها، لتصبح بعهدها أيقونة جديدة تضاف إلى أيقونة القاصرات اللائي لا يبالي المجتمع لظروفهن وتنكسر الإنسانية تحت أول خطوة منهن نحو بناء الزوجية.