كتب: حلمي النمنم في شهر سبتمبر من عام 1996، نشرتُ فى جريدة الدستور دراسة حول الثورة العرابية، وتحديدًا حول مشهد يوم مظاهرة عابدين 9 سبتمبر 1881 ، فقد درسنا فى كتب التاريخ، وطالعنا صورة مرسومة لعرابى على حصانه، شاهرًا سيفه، بينما يقف الخديو محمد توفيق وسط حاشيته على مبعدة منه، ويلوّح عرابى له قائلا ... والله الذى لا إله إلا هو... لسنا عبيدًا، ولن نورث بعد اليوم ، وسياق الحوار وبقيته معروف، حفظناه وامتحنا فيه، وبالدراسة تبيّن لى أن هذا المشهد وذلك الحوار لم يحدثا نهائيا، وأنه مختلق، وبتعبير أيامنا أنه مفبرك، وقد رجعت إلى شهادات شهود عيان ذلك اليوم، واتفقوا كلهم على أنه لم يحدث أى حوار مباشر يومها بين عرابى والخديو. كما أن عرابى حين وصل باحة قصر عابدين ترجَّل عن حصانه طبقًا لتعليمات حرس القصر، وكان عرابى خارج القصر، بينما الخديو بالداخل، وكانت الرسل بينهما، وجوهر الأحاديث غير المباشرة أن عرابى رفع بعض المطالب -نعرفها جيدا- وكان رد الخديو، عبر وسطاء، أن المطالب المتعلقة بالجيش من حقكم، أما المطالب المتعلقة بالشأن السياسى فليس من حقكم أن تطالبوا بها لأنكم لستم سياسيين. كان د.عماد أبو غازى هو محرر صفحة التراث ب الدستور ، وتحمّس لهذه الدراسة، فنشرها رئيسى الصفحة، وأفردَ معظم الصفحة لها، وكان إبراهيم عيسى، رئيس تحرير الدستور ومؤسسه، أشد تحمسًا، فأبرز عنوان الدراسة بين مانشيتات العدد فى الصفحة الأولى، كانت جريدة الدستور فى عامها الأول، وفى تجربتها الأولى، وكنا شبانا نريد إحداث حراك مهنى على مستوى الصحافة، يمكننا من إثارة ومناقشة المسكوت عنه فى الصحافة، وفى الثقافة والمجتمع وفى السياسة، وفى العموم هذه التجربة لم يكتب عنها -إلى اليوم- كما يجب. وما أن نشر المقال، صباح الأربعاء، حتى أضيئت كل الأنوار الحمراء، فى أكثر من مكان، ونشط كتبة التقارير، بدءًا من أننى أتهم عرابى بالخيانة، وأشكك فى الثورة العرابية، وانتهاءً بأننى أشكك فى المؤسسة العسكرية، التى انتمى إليها عرابى، وأقوم بالتلسين على حسنى مبارك شخصيًّا، باعتباره ضابط جيش فى المقام الأول. فى ما بعد عرفت أن الرئيس حسنى مبارك طلب من وزير إعلامه صفوت الشريف إغلاق هذه الجريدة، وكان من بين أسباب الإغلاق -بعد شهور- تلك الدراسة القصيرة، التى لم تتجاوز ألف كلمة، الموضوع به كثير من التفاصيل والمواقف المتهافتة من بعض الذين كنا نتصوّرهم كبارًا وقتها، ولا مجال هنا لذكرها. تذكرت هذه الواقعة، وأنا أتابع النقاش واللغط الدائر حول قانون سب الثورات ، وكانت البداية بلقاء السيد الرئيس بشباب الإعلاميين الأربعاء 3 ديسمبر 2014 ، فقد تحدث عدد من الزملاء عن أن الرئيس أبلغهم أن هناك فى رئاسة الجمهورية دراسة تجرى لإصدار قانون يجرّم سب الثورات، ثم تم تعديل الأمر ليكون الحديث عن سب ثورة 25 يناير/ 30 يونيو . وفهمت من أحاديث بعض الزملاء أن رد الرئيس هذا، كان فى معرض شكواهم إليه من الهجوم على ثورة يناير فى عدد من الصحف والمنابر الإعلامية. والحق، إننى دهشت أن يشكو إعلاميون الإعلام للرئيس، ولا أعرف هل كانت شكواهم لاستفزازه وتحريضه أو دفعه كى يتدخل إزاء البرامج التى يشكون منها، أم كانوا يعلنون له احتجاجًا واستياءً عاما؟ أم هل استشعرت رئاسة الجمهورية الغضب والقلق لدى بعض قطاعات المجتمع من انتقاد ثورة 25 يناير والهجوم عليها، لذا شرعت فى إعداد مشروع قانون، وجاءت شكوى الإعلاميين الشباب مناسبة كى يعلن الرئيس بنفسه ما يدور فى الرئاسة بهذا الصدد. الملاحظ أن الإعلان على دراسة مشروع قانون سب الثورات، جاء مبتورًا، فلا نعرف طبيعة تلك اللجنة أو المجموعة التى ستعد المشروع، ومنذ متى تعمل ومتى ينتهى المشروع، وما أبرز مواده، بل الأفكار السائدة داخل اللجنة. ثورة 25 يناير تتعرض للانتقاد والهجوم الحاد، وصفت بأنها مؤامرة أمريكية، وأنها نكسة وخيبة، لكن ما الجديد فى ذلك، هل هناك ثورة فى التاريخ وجدت إجماعًا عليها؟ وهل هناك ثورة لم تتهم ولم تهاجم؟ الثورة عادةً تزيح فئة أو مجموعة، وربما طبقة بأكملها، فهل نتوقع من هؤلاء أن يرفعوا الرايات لها؟ والثورة يصاحبها قدر من الفوضى والارتباك، وهناك من يصيبهم الانزعاج من ذلك، فهل نتوقع من المنزعجين أن يرحبوا بالثورة، أو أن يشيدوا بها، والثورة تهز أوضاعًا ثابتة، وقد ينتج عنها الخطر على المجتمع وعلى الوطن بأكمله. فرنسا تعرضت للغزو والحصار بسبب ثورة 1789، وهناك وطنيون مخلصون يتخوفون بصدق على الوطن، وعلى البلد، فماذا ننتظر من هؤلاء؟ وهى أيضًا تضرب مصالح أفراد وجماعات، فهل ننتظر من هؤلاء أن يسبحوا بحمد الثورة؟! ثورة يناير ليست بدعًا بين الثورات، سواء المصرية أو الإنسانية، الثورة الفرنسية نفسها، يوجد داخل فرنسا من لا يحبها ويهاجمها، بل هناك مؤسسات بأكملها لم ترحب أبدًا بهذه الثورة، الكنيسة الفرنسية نموذجا، وقصة الصراع بين اليعاقبة والجيروند فى فرنسا معروفة. الثورة البلشفية فى روسيا واجهت ما هو أكثر منذ قيامها سنة 1917، وحتى سقوط الاتحاد السوفييتى سنة 90، ورغم أنها ثورة باتت فى ذمة التاريخ، فما زال هناك من يهاجمها بضراوة. والأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة للثورات المصرية، تعرضت هذه الثورات إلى حملات مستمرة ومتواصلة وصلت إلى إنكار تام لها أو عملية نفى الوجود بالتعبير الهيجلى، حتى وجدنا من يتمطى مدعيا الثورية فى أثناء ثورة 25 يناير ، ليقول عبر عدد من الفضائيات إن 25 يناير هى أول ثورة فى تاريخ الشعب المصرى، وكأن هذا الشعب تاريخيًّا كان شعبًا من العبيد، وكأن هؤلاء الذين استضافت عددًا منهم المعاهد الأمريكية أو المراكز البحثية بعض الوقت جاؤوا ليعلموننا عن تاريخنا، ونسى هؤلاء الجهلاء أنه ما من عصر مرّ بمصر بلا ثورة حقيقية، وكون هؤلاء يجهلونها فإنه لا ينفى وجودها. فى أثناء الدولة العباسية قام المصريون بثورة كبرى ضد ظلم العباسيين، وجاء الخليفة المأمون على رأس جيش هنا، وبقى أكثر من شهر ونصف يمارس القمع على المصريين، ويقال إن عدد ضحاياه بلغ وقتها ربع سكان مصر، أباد مناطق بأكملها، فى الفيوم تحديدا، دعنا الآن من أن محافظة القاهرة تكافئه، وتضع اسمه على أكبر شارع فى مصر الجديدة! بدأت هذا المقال بذكر الثورة العرابية، هى نموذج لما نتحدث عنه، استكثر معظم الدارسين لعدة عقود إطلاق اسم الثورة عليها، وفضّلوا تسميتها هوجة عرابى ، حتى إن عبد الرحمن الرافعى حين أصدر كتابًا عن عرابى فى زمن الملك فاروق تعرض للمصادرة، فقد كان ينصفه. وإلى اليوم بين الباحثين من يصر على اعتبار الثورة العرابية مجرد هوجة أو تمرد على الخديو، انتهى بجلب الاحتلال البريطانى إلى مصر، ويحمّلون عرابى مسؤولية الاحتلال. الزعيم مصطفى كامل كان واحدًا من هؤلاء، وكذلك كان أمير الشعراء أحمد شوقى، وله قصيدة طويلة فى هجاء عرابى يوم أن عاد من المنفى. ثورة 19 نفسها لم تسلم من الانتقاد والهجوم. فى أثناء أحداث الثورة كان الإنجليز وصحافتهم فى مصر، يصرون على أنها مجرد مظاهرات شغب، قامت بتمويل ألمانى- تركى ضد بريطانيا، انتقامًا منها لانتصارها فى الحرب العالمية الأولى، وكُتبت الكثير من المقالات بهذا المعنى، فى صحيفة المقطم تحديدا وفى غيرها. نسى هؤلاء أن سعد زغلول نفسه كان من أعدى أعداء تركيا العثمانية، وبقيت ثورة 19 تهاجم بهذا وبغيره من التهم، وما أن انتهت موضة الهجوم عليها بدعوى التمويل الألمانى، حتى صدر اتهام آخر ما زال قائمًا إلى اليوم، وهو أنها هادنت الإنجليز، فى أثناء المفاوضات، ورضيت بالدستور والاستقلال المنقوص، ولم تحقق الاستقلال التام، الذى هتف به المصريون سنة 1919. وأظن أن هناك مدرسة تاريخية بأكملها تقول بذلك إلى اليوم، تضم هذه المدرسة مؤرخين وسياسيين كبارًا. ثورة 1952 كانت الأكثر تعرضًا للهجوم، وما زال هناك من يرى إلى اليوم أنها لم تكن ثورة، بل كانت انقلابًا، وأن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، بل بيننا من يرى أنها بلا إيجابيات على الإطلاق، وأنها أخفقت فى كل شىء قامت به، حتى تأميم قناة السويس وبناء السد العالى، تعرضا للتشكيك، فالقناة كانت ستعود إلى المصريين سنة 1968 بانتهاء سنوات الامتياز، والسد العالى حرم الأراضى الزراعية من طمى النيل، مما زاد من ملوحتها، وهكذ، ولم يكن هذا الهجوم فرديا، ولا قامت به مجموعات بعينها، معادية للثورة، بل إن الدولة المصرية فى عهد الرئيس السادات سمحت بذلك، وأعطت ضوءًا أخضر به. هل نسينا مقالات وآراء الراحلين أنيس منصور وثروت أباظة؟ وهل نسينا كتاب توفيق الحكيم عودة الوعى ، وعشرات الكتب التى صدرت فى تلك الفترة؟ ومع ذلك فإن الهجوم على ثورة 52 وكذلك ثورة 19 ومن قبلهما ثورة عرابى تبخر، وبقى منه الخلاف الفكرى الإيجابى حول الأحداث الكبرى، التى مرت بنا فى تاريخنا، وليس صحيحًا أن يتم تأميم هذا الخلاف، وأن يتصور البعض إزالته، وأن يتقولب الناس جميعًا فى تيار واحد وفكرة واحدة. وبودِّى لو راجع بعضنا كتاب الجبرتى عجائب الآثار وقرأ أوصافه وتعليقاته على ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية، فى أثناء الحملة الفرنسية. جرت الأولى حين كان نابليون قائدا للحملة، وجرت الثانية لمّا كان كليبر قائد الحملة. اعتبر الجبرتى هؤلاء الثوار مثيرى الفتن، حشرات، وغير ذلك من الأوصاف، ولمّا قام سليمان الحلبى بطعن كليبر وقبض عليه، ألقى عليه الجبرتى أقذع الصفات والنعوت، وفى ثورة القاهرة الثانية شارك عدد من المغاربة الموجودين بمصر فى أحداثها، فراح الجبرتى يتهمهم بأنهم جاؤوا إلى مصر متعمدين التخريب وإحراق البلاد. لا أريد أن أستطرد فى هذا الجانب، فقط ألجأ إلى بعض نصوص الجبرتى للتذكرة، فى أحداث الثورة الأولى يقول: ... حضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية، ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون فى الكلام نصر الله دين الإسلام . وفى ثورة القاهرة الثانية، حدث أن اتهم بعض الثوار عددًا من الأهالى بموالاة الفرنسيين، وتأهبوا للانتقام منهم والتنكيل بهم، وإذا به يقول: تتبع الناس عورات بعضهم البعض، وما دعتهم إليه حظوظ أنفسهم وحقدهم وضغائنهم... ، وحدث أن احتد البعض من الثوار على كبار العلماء، خصوصًا الشيخ الشرقاوى، شيخ الأزهر آنذاك، الذى تدخل فى أثناء هذه الأحداث لوقف القتال بين الأهالى والفرنسيين، وإحلال السلام، وكان الشرقاوى يريد أن يجنّب المصريين قسوة وعنف الفرنسيين، وقد وافق كليبر على اقتراح الشرقاوى، لكنه طلب منه أن يحصل على موافقة الناس عليه، وقد رفض الأهالى عرض الشرقاوى وكبار العلماء، وغضبوا بشدة منهم، يقول الجبرتى نصًّا: ... رمَوا عمائمهم وأسمعوهم قبيح الكلام وصاروا يقولون هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس ، ويعلق هو على ما حدث بالقول: وتكلم السفلة والغوغاء... ، ترى أين يقع تعبير السفلة والغوغاء من مشروع قانون سب الثورات؟! وإلى اليوم ما زلنا نقرأ الجبرتى وندرس كتابه، ولم نتهمه ولا اتهمه معاصروه بالعداء للثورة، كان الرجل يعبر عن رأيه ورصده للأحداث، ولم يتغير رأينا أو نظرتنا إلى ثورتى القاهرة، ولا ننسى أبدا أن هاتين الثورتين كانتا مقاومة لمحتل أجنبى ودفاعًا عن استقلال الوطن. صحيح أن الثورة الثانية لم تكن موفقة، وكانت أضرارها على سكان القاهرة شديدة، لكن فى النهاية كان المصريون يقاومون هذا الاحتلال بطريقتهم وبإمكاناتهم، لم يقل أحد إن الجبرتى عميل للفرنسيين ولقوى الاحتلال، أحترم رأيه وموقفه، وهذا ما نفتقده كثيرا الآن، بعض أنصار ثورة 25 يناير اعتبروا كل من يخالفهم مشككًا فى الثورة، يجب إسكاته ومنعه من الحديث. ولا أفهم إصرار البعض من شباب ومحبى ثورة 25 يناير ومن غيرهم، على تجريم انتقاد الثورة وعلى الحرص على منع الانتقادات، وكأن حياتنا تنقصها الأبقار المقدسة، فنسعى إلى إضافة بقرة جديدة مقدسة، ونسنّ قانونًا لمعاقبة من لا يقدسها. السلطة، أيا كانت تصنع أبقارها المقدسة، لكن الثورة، إن كانت ثورة بحق، عليها نحر تلك الأبقار، وإضفاء طابع الحرية على المجتمع، حتى لو كانت هذه الحرية مصحوبة بنزق البعض أو تهورهم. بين ثورات مصر المعاصرة، كانت ثورة 25 يناير ، هى التى وضعت الحرية هدفًا رئيسيًّا من أهدافها، كانت ثورة عرابى موجهة فى المقام الأول ضد سيطرة العناصر التركية والشركسية على مقاليد الأمور فى البلاد، وكان الهدف استبدالها بالعناصر الوطنية المصرية ، وهدفت ثورة 19 إلى تخليص البلاد من الاحتلال البريطانى، أما ثورة يوليو فكان هدفها إنهاء الاحتلال البريطانى أيضًا، ومواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ثورة يناير قامت لمواجهة الطغيان والاستبداد فى المقام الأول، لذا فإن النفور من انتقادها أو مؤاخذتها هو عمل ضد هويتها بالأساس، والتفكير فى إصدار قانون يسمى سب الثورة يعنى النكوص عن الثورة تمامًا، والارتداد إلى زمن ترزية القوانين وتفصيل التشريعات الذى اشتهر به الحزب الوطنى، الحزب الذى أسقطته ثورة 25 يناير . حين تولى الرئيس السادات الحكم، أطاح فى 15 مايو بمعاونيه من كبار رجال الدولة، وأطلق عليهم تعبير مراكز القوى، وهذا وارد فى عملية انتقال السلطة فى بلادنا من رئيس إلى رئيس، حتى فى النظام الملكى يطيح الملك الجديد بمن تعاونوا مع سلفه، وغالبًا ما يكون والده أو شقيقه، لكن السادات أحاط ما قام به بعمليات درامية، ثم راح يحاكمهم جميعًا، بتهم كان من بينها الخيانة العظمى، ولم ينتبه إلى أنه لو ثبتت خيانتهم، فإن الخيانة كانت ستصيبه هو شخصيا، فقد زاملهم فى زمن عبد الناصر، وهم الذين رشحوه للرئاسة وساندوه، ودفعوا به حتى أدى اليمين الدستورية. المهم أبى السادات إلا أن يطلق على ما قام به ثورة، وصار اسمها ثورة 15 مايو ، ثم صدرت اللوائح بمعاقبة من لا يعترف بها، ومن يهاجمها، كان ينظر إليه كشيوعى ملحد ويحاسب، ولأنها ليست ثورة فإن القوانين لم تكتب لها أن تعيش فى ذاكرة الناس، ولا فى التاريخ، بل إن السادات بعد أن زار القدس سنة 1977 نسيها هو الآخر، ولم يعد يذكرها هو نفسه، لأنها لم تكن ثورة، بل خلاف بين الرئيس وكبار معاونيه، فتقدموا باستقالاتهم، الأمر الذى أغضب الرئيس، واعتبر ذلك تمردا عليه، فنكّل بهم وتصوّر أن ذلك ثورة. الثورة لا تنال مهابتها من قانون يخرس الألسنة حولها، لكن قيمة ومهابة أى ثورة من الإنجاز، الذى تحققه، حتى لو لم تحقق كل أهدافها، أو حتى لو أصابها الإخفاق فى بعض مراحلها أو تعرضت للفشل. ثورة عرابى فشلت، وانتهت إلى عكس ما كانت تنادى به، لكنها محاولة وطنية جادة للاستقلال، ولم يفقدها الفشل الاعتراف بأنها ثورة. الثورة الفرنسية بعد دفعتها الأولى تعرضت للانتكاس، وعاد الحكم السابق عليها إلى مواقعه، لكن بجهد وبحركة وطنية ومجتمعية وثقافية هائلة، أمكن للثورة أن تعاود التقدم، وأن تفك الحصار عنها داخليًّا وخارجيًّا، وليتنا نتذكر أن بناء الحكم المدنى الكامل، وفصل الكنيسة عن الدولة، تم فى سنة 1902، أى بعد 113 سنة من نشوب الثورة، أما إذا فهمنا الثورة على أنها الإطاحة بحاكم، فهذا يمكن أن يفعله مجرم أو إرهابى باغتيال الحاكم، فعلها خالد الإسلامبولى واغتال السادات ، وإذا فهمنا الثورة على أنها الإطاحة بمجموعة تحكم أو نخبة مسيطرة، فهذا يمكن للحاكم نفسه أن يفعله، فعلها أنور السادات نفسه فى 15 مايو 1971، وفعلها على زين العابدين فى تونس، ويفعلها أى رئيس أمريكى، حين يدخل البيت الأبيض أول مرة . والأمر المؤكد أن ثورة 25 يناير لم تحقق كل أهدافها، والأمر المؤكد كذلك أن الثورة سرقت فى انتخابات الرئاسة المزوّرة فى يونيو 2012، مما استوجب قيام ثورة جديدة أو موجة أخرى للثورة فى 30 يونيو، لكن ثورة يناير قدمت إنجازًا لا يمكن إنكاره أبدًا. ثورة يناير أطاحت بمبارك، والأهم من مبارك أنها أطاحت بنجله جمال مبارك من الساحة السياسية، ومن الهيمنة على الدولة، ومن ثم أسقطت قضية ملف التوريث إلى الأبد، وكان التوريث يتحرك بسرعة شديدة، وكان من المقرر أن يتم فعليا فى مايو 2011، عيد ميلاد مبارك، هى كذلك وضعت حدًّا للمعونة والضعف والهوان فى علاقاتنا الخارجية، خصوصا مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ومع دول الغرب ومع إسرائيل. إنجاز ثورة يناير أكبر من ذلك، هى فتحت المجال واسعًا أمام المصريين الأقباط، ليخرجوا سياسيًّا ووطنيًّا من حضن الكنيسة، الذى وضعهم فيه مبارك والسادات من قبله إلى حضن الوطن الواسع، ويشاركوا فى الشأن العام، ويصبحوا مواطنين فى الدولة المصرية، لا دولة الكنيسة التى حرص مبارك على تكريسها، بقصد أو عن غير قصد، وفتحت الثورة المجال واسعًا، أمام المرأة والفتاة المصرية لتشارك فى الشأن العام، بلا محاذير ومخاوف وبلا اتهام، وأسقطت كثيرًا من التابوهات فى هذا المجال. ثورة يناير حررت المصريين من تسطيح وتفاهة طموحات وتطلعات نظام مبارك، كان أقصى طموح لهذا النظام أن يحقق المنتخب الوطنى فوزًا على الجزائر فى مباراة بالسودان، لكن الثورة حررت الطموح العام ليصبح بناء مجتمع الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وقبل كل ذلك وبعده تحقيق التنمية والنهوض، ليس هدفى -الآن- أن أعدد ما حققه خروج المصريين بالملايين فى ثورة 25 يناير. إنها تمثل عودة الروح، بالمعنى الحرفى للكلمة. صحيح أن الثورة تعثرت فى بعض الأوقات وتراجعت، بفعل الثورة المضادة حينا، وانعدام خبرة بعض شبابها وسقوطهم فى غواية بعض أجنحة نظام مبارك وشخوصه، لكن هل هناك ثورة فى التاريخ لم تتعثر ولم تقابل المشكلات؟ لو سارت الثورة فى خط مستقيم وبلا عقبات، لا تكون ثورة، بل تكون حركة إصلاحية، والفارق كبير. الإنجاز هو ما يضمن للثورة وجودها وبقاءها، أما إصدار قانون يكمم الأفواه، فهذا عمل منافٍ لروح الثورة ولدولة الحريات التى يجب أن تترسخ، وتتركز أعمدتها وبنيانها. وفى مراحل معينة من الضعف السياسى والقانونى، عرفت مصر ظاهرة تفصيل القوانين، أو ما يمكن أن نطلق عليه قوانين المناسبات التى تصدر، وربما لا تنفذ، وتصبح مثارًا للتهكم وللسخرية العامة، وتصبح أشبه بالورم القانونى والسياسى فى جسد الدولة والمجتمع، والحق أن الرئيس السادات -رحمه الله- ضرب المثل فى مثل هذه القوانين، فكان قانون العيب، وقانون ازدراء الأديان، وقانون هيكل، قانون خاص بالأستاذ محمد حسنين هيكل لمنعه من نشر ما لديه من وثائق وأوراق ، ونحن لا نتمنى أن يتكرر هذا العصر، وأن لا يبدأ الرئيس السيسى عهده بقانون من هذا النوع، وصدور مثل هذا القانون يسىء، أول ما يسىء، إلى ثورة 25 يناير وإلى ثورة 30 يونيو . الأولى شارك فيها 14 مليون مصرى ومصرية، والثانية شارك فيها أكثر من 30 مليون مصرى ومصرية، وباعتراف، حتى غير المحبين، أن هذا العدد لم يخرج فى أى ثورة فى أى بلد فى العالم. الثورة الإيرانية سنة 1979 خرج فيها إلى شوارع طهران أقل من مليون مواطن ومواطنة، وإذا كانت ثورة شهدت مشاركة 30 مليونًا، وتحتاج إلى قانون يحصّنها ضد برنامج تليفزيونى، أو حلقة فى برنامج أو مقال فى صحيفة، فإن ذلك يكون شهادة لها بالضعف والعجز. لندع الثورة، ولندع من يتكلم يتكلم، ومن ينتقد ينتقد، ومن يرى أن ثورة يناير مؤامرة فليقل ذلك بوضوح ويعلن حججه وأسانيده، ومن يعتبر ثورة 30 يونيو انقلابا فليقل ذلك أيضًا وبأعلى صوت، أصر على ذلك، وأنا من الذين يؤمنون أن يناير ثورة، ولم تكن مؤامرة، وأن 30 يونيو ثورة، ولم تكن انقلابا، ولا يزعجنى أن يقول الآخرون غير ذلك. يزعجنى أن تتوقف الثورة لمحاسبة الناس على كلامهم أو ثرثرتهم، وما يشكو منه شباب ومحبو ثورة 25 يناير ، يدخل جانب غير قليل منه فى باب الثرثرة، على طريقة ما السر الخفى فى علاقة المشير عبد الحكيم عامر بالزعيم جمال عبد الناصر، لكن وضع قانون أو تشريع خاص يمنع تلك الثرثرة أو يحد منها، لن يمنع هؤلاء عن الكلام، ولن يوقف ثرثرتهم، لكن سوف يضر حتمًا بالبحث العلمى والدراسات التاريخية والوثائقية فى مصر، ففى ظل هذا القانون الذى يجرى الإعداد له، ما مصير من يتحدث عن حكم المستشار خالد محجوب بأن فتح سجن وادى النطرون لم يكن من أحداث الثورة، بل عمل إرهابى، قامت به عناصر الإخوان بالاشتراك مع طرف أجنبى هو حماس، وماذا لو أن تحقيقًا فتح فى سر سيارة السفارة الأمريكية التى دهست المواطنين فى ميدان التحرير والملثمين القتلة الذين اعتلوا مبنى الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، من دون كل المبانى فى المنطقة؟! من الذى سمح لهم بدخول مبنى الجامعة الأمريكية واعتلاء سطحها، والمبنى كما هو معروف محكوم أمنيًّا جيدًا، وتؤمّنه السفارة الأمريكيةبالقاهرة، بما لديها من أفراد ومن أجهزة متقدمة فى هذا المجال، ومن هم الذين اعتلوا المبنى، ومن أين بنادق الليزر التى كانت فى حوزتهم وثبت أنها لم تكن معروفة ولا مستعملة لدى جهاز الأمن المصرى؟! وماذا لو أن إيلان جرابيل رجل الموساد الذى أقام فى ميدان التحرير لمدة 18 يومًا، كانت لديه عصابة أو خلية ليس لجمع المعلومات فقط، بل لقتل الشباب المصريين، لإثارة مزيد من البلبلة والفوضى فى مصر... وهكذا، لو أن باحثًا أراد الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها، وتوصل إلى نتائج غير ما نعرفه أو غير ما نتوقعه، ما حكم ذلك الباحث؟ ولو أن طالبًا مصريًّا قرر أن يسجل رسالة للماجستير أو الدكتوراه عن ثورة 25 يناير أو 30 يونيو ، وأن يدرس كل منهما بمنهج نقدى هل يمكن لإدارة الجامعة أن توافق له على إجراء البحث فى ما لو صدر القانون؟ وإذا صدر مثل هذا القانون، ما مصيرى أنا صاحب دراسة أن عرابى لم يقم بأى حوار مع الخديو توفيق، ولا ارتآه بالمرة يوم 9 سبتمبر 1881؟ وما مصير المؤرخ الجليل د.عبد الخالق لاشين، وله موقف نقدى فى دراساته من سعد زغلول شخصيًّا، ومن ثورة 1919، وبنى اسمه ومجده العلمى كمؤرخ على ذلك؟ وما مصير د. فؤاد زكريا، لو أنه على قيد الحياة، وهو من قدم عدة دراسات ورؤى نقدية حادة لثورة يوليو 1952؟ وكيف نتعامل مع اسم توفيق الحكيم صاحب عودة الوعى ، الذى كان فاتحة موجات من الهجوم الحاد على ثورة يوليو 1952؟ الثورة والثوار لا يجب ولا ينبغى لهم أن يتوقفوا ليحاسبوا الناس على ما يقولون، ما يجب أن تهتم به الثورة هو الإنجاز على الأرض، وأفضل رد على مهاجميها أو المشككين فى جدواها هو ما تقدمه للوطن والمواطنين من إنجازات وما يلمسه الناس من أفعال، وما سيعود عليهم من تلك الإنجازات. كان المفكر الراحل د. فؤاد زكريا كثير الانتقاد لثورة يوليو والرئيس عبد الناصر شخصيًّا، لكنى سمعته مرة يقول: إن أهم ما فى ثورة يوليو وعبد الناصر الفعل ، لم يقل عبد الناصر ولا المعجبون بثورة يوليو عن السد العالى فى أثناء العمل فيه أنه مشروع قومى، لكن رأى المصريون أثره فأطلقوا عليه المشروع القومى، وكان ذلك بعد وفاة عبد الناصر. لدى ثورة 25 يناير إنجازها الكبير، وكذلك لدى ثورة 30 يونيو إنجازها، بل إنجازاتها الكبرى فى الحفاظ على الدولة الوطنية وحماية مصر من مصير سوريا وليبيا والعراق، وهذا ليس بالقليل، فضلا عن إنجازات الداخل، هناك مشكلات قائمة يجب أن تحل، ولدينا طموحات لا بد أن تلبى وتطلعات واجبة التحقق، أمامنا طريق طويل لبناء تنمية حقيقية وإقامة عدالة اجتماعية، وعلينا توسيع نطاق الحريات العامة، ليس الحريات السياسية فقط، بل الحريات الاجتماعية والشخصية أيضًا، وأمامنا ثقافة عامة باتت مبنية على المنح والهبات والتسول، بدلا من أن تقوم على العمل والإنتاج، هذه كلها أمور أساسية علينا القيام بها، ونضع التشريعات وسن القوانين من أجلها، أما أن يصبح شغلنا الشاغل ثرثرة البعض أو حتى انتقاداتهم ومآخذهم على حدث أو أحداث بعينها، فهذا أقرب إلى التنطع الثورى والانشغال بصغائر الأشياء. باختصار الإنجاز والفعل أهم وأبقى، أما تفصيل القوانين، فلا يليق بثورة ولا بمواطنين أحرار، ولا يليق بالدولة والحكم القوى، بانحياز الجماهير إليه، أن يلجأ إلى هذا الأسلوب... أتمنى أن تعدل رئاسة الجمهورية عن التفكير فى سن ذلك القانون، وأرجو أن يعيد المتحمسون لإصداره النظر والتفكير فى الأمر من شتى جوانبه، ولا تأخذنا لحظة غاضبة أو انفعال آنٍ لسن قانون يصبح عبئا علينا جميعا فى ما بعد.