■فى 2002، قدم الرئيس الفرنسى جاك شيراك مشروع قانون يجيز عزل الرئيس فى بلاده فى حالة ثبوت تقصير خطر فى أدائه لمهامه، لاحظ هنا أولًا أن من قدم المشروع هو الرئيس نفسه، وهذه لياقة ديمقراطية عظيمة، لكن ما الذى حدث؟ حتى شهر نوفمبر الماضى، ظل المجلس الدستورى الفرنسى وهو مؤسسة تم إنشاؤها بموجب دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958، وتعمل على ضمان نزاهة الانتخابات والاستفتاءات الوطنية، وعدم مخالفة القوانين واللوائح للدستور يناقش أمر هذا القانون، وأخيرًا وبعد 14 سنة كاملة من النقاش أقر المجلس الدستورى هذا القانون الذى يتيح عزل الرئيس من منصبه فى حالة حدوث نقص فى واجباته يتعارض فى شكل واضح مع مهمات ولايته بشرط أن يتم ذلك بطلب من 10% من مجلس النواب و10% من مجلس الشيوخ وفى جلسة مشتركة تضم المجلسين بحضور ثلثى النواب على الأقل. ما الذى نستفيده من ذلك؟ الديمقراطية مراحل، وحتى فى أكثر الدول استقرارًا سياسيًّا وأكثرها رسوخًا، فإن الأمر يستغرق كثيرًا من الوقت حتى تتحقق الديمقراطية شبه الكاملة، تخيل أن فرنسا، أرض الحريات، لم تكن تستطيع حتى أيام قليلة مضت أن تعزل رئيسها حتى ولو أخطأ فى طريقة إدارة البلاد بشكل مرعب! فى كل الأحوال فإنه لا يمكن أن يحاكم الرئيس الفرنسى أمام القضاء طالما ظل فى منصبه، وذلك حتى لا يتسبب هذا فى اهتزاز مؤسسات الدولة.. شُفت حتى فى فرنسا يخافون على الدولة من الاهتزاز! ■ تبدو نظرة غالبيتنا لدول آسيا ذات الغالبية المسلمة مثل ماليزيا وإندونيسيا نظرة مليئة بالكثير من الغَيرة والغِبطة، لأنهم شوف.. مسلمون وعندهم اقتصاد عظيم وديمقراطية تسمح بالتعدد ، وهذه طبعًا صورة نمطية تقليدية تكتفى بقراءة الظاهر ولا تهتم بالتطلع إلى العمق. إندونيسيا مثلا، على سبيل المثال، مرت بموجة من المظاهرات التى نظمها إسلاميون متطرفون فى العاصمة جاكرتا الشهر الماضى، والسبب طائفى بامتياز، وهو أنه ولأول مرة منذ نصف القرن تم انتخاب حاكم مسيحى للعاصمة جاكرتا، بل إن جبهة المدافعين الإسلاميين وهى النسخة الإندونيسية من تحالف أنصار الشرعية فى مصر أعلنت أنها ستنظم احتجاجات أسبوعية ضد الحاكم المسيحى الجديد باسكوكى بورناما حتى يترك الحكم مش باقولك دى النسخة الإندونيسى من تحالف الشرعية ! ما الذى يخرج به المرء من هذه القصة؟ عاشت إندونيسيا فى ظل الديكتاتورية حتى عام 1998، ومنذ هذا التاريخ وحتى يومنا هذا، تحسن الوضع الاقتصادى والسياسى كثيرًا لهذا البلد الذى يعيش فيه ربع المليار نسمة، 87% منهم مسلمون، لكن الوضع الدماغى و تقبل الآخر هى أشياء لا تزال بحاجة إلى كثير من التحسن.. الديكتاتورية مرض لا تُزْوَى آثاره بسرعة من أجساد الشعوب. ■ فى كتابها البديع أنا ملالا -الذى أتمنى أن تدرجه وزارة التعليم على الطلاب فى المدارس ليعرفوا أولا قيمة التعليم، وثانيًا لتعرف الوزارة كيف تعلم أبناءها- تقول الشابة الباكستانية الفائزة بجائزة نوبل للسلام هذا العام: إن زعيم (طالبان فى باكستان) (الملا فضل الله) أصدر ذات يوم فتوى بمنع التطعيم ضد مرض شلل الأطفال فى بلاده، ونزل رجاله المتطرفون إلى شوارع القرى فى باكستان لتطبيق ذلك حرفيا، وهذا لأن التطعيم ضد شلل الأطفال فى نظره (مؤامرة أمريكية لإعقام نساء المسلمين) ! حدث هذا فى عام 2010، وفى الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر الماضى، قتل ثلاث سيدات باكستانيات من العاملات فى مكافحة شلل الأطفال، على يد مسلحين اعترضوا طريق سيارتهن بدراجة بخارية ثم أطلقوا الرصاص عليهن فمُتن جميعًا ومعهن السائق، وهرب القتلة . فتاوى القتل تعيش وتترعرع فى البيئة الحاضنة للإرهاب، هذ واضح، لكن المدهش فعلًا هو أن ينزع التطرف من العقول أى رحمة، فيجعل المرء لا يقوم فقط بقتل سيدات عُزّل، وإنما يمنع حماية أطفال أبرياء من تطعيم يحميهم من مرض قاسٍ.. هذا اسمه شلل دماغ وليس شلل أطفال بالمناسبة. المدهش أن الملا فضل الله، زعيم طالبان باكستان ، الذى لا يزال هاربًا حتى الآن، كان يعمل سائقًا للتلفريك وهو يجرجر ساقه اليمنى بسبب إصابته بمرض شلل الأطفال . تخيَّل!