الذين يحاولون النيل من حمدين صباحى يشيرون فى أحاديثهم عنه إلى أن ناصريته تعتبر مؤشرا خطيرا، لأنه سوف يعيد إنتاج التجربة الناصرية بكل ما كانت تحويه من سوءات الحكم الشمولى، وهم فى هذا يتصيدون للفترة الناصرية جوانب الخلل والخطأ.. ونقد أى تجربة حكم عبر التاريخ، وفى كل مكان لا بد أن يكون لها إيجابيات وسلبيات، ومن هذه الزاوية فإن التركيز على سلبيات التجربة فقط يتصف بالتحيز الكاره الذى يسعى إلى التشويه.. لا شك فى أن جمال عبد الناصر فى إطار النقد الموضوعى ارتكب أخطاء جسيمة، لكنه كان أيضا زعامة ملهمة ترسخت بانحيازه للفقراء والتركيز على النهوض بالإنسان، ورفض أى شكل من أشكال التبعية، واهتم ببناء أول قاعدة صناعية فى مصر، وحقق مجانية التعليم والمعاشات والتأمين الصحى، والاهتمام بالفنون والآداب والشباب، فامتلأت ربوع مصر بقصور الثقافة وبيوت الشباب، لكنه فى المقابل كان يحكم حكما شموليا بالفعل، وهنا علينا أن لا نغفل أنه فى هذه الفترة كان هذا هو النموذج الذى يحكم من خلاله الزعماء الوطنيون فى العالم الثالث، لتحقيق مشروع النهضة والبناء، لكن هذا لا يعنى أن هذا النموذج كان نظام الحكم السائد تماما فى العالم الثالث، إذ كانت هناك تجربة الهند الديمقراطية التى حققت نجاحا لافتا، ولا شك أن النموذج الشمولى تسبب فى آثار جانبية خطيرة، كان تجليها المروع هو هزيمة 5 يونيو 1967، وكان البيت الشهير للشاعر الكلاسيكى العظيم العراقى، محمد مهدى الجواهرى، تعبيرا فذا عن حالة عبد الناصر: لا يعصم المجد الرجال *** وإنما كان العظيم المجد والأخطاء عودة إلى حمدين، فالذى لا يحتاج إلى تأكيد أو توضيح أنه ليس نسخة بالكربون بالطبع من عبد الناصر، وأنه بعد هذه السنوات الطويلة من رحيل جمال، يصبح استلهام التجربة الناصرية بالمعنى الصحيح انتقاء للجوانب المضيئة فى التجربة، وهى كثيرة، ولا خلاف عليها إطلاقا، وحتى لا يكون الكلام مرسلا ومطلقا، تكتنفه شبهة الدعائية، يمكن القول، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إن العدالة الاجتماعية، وهى محل إجماع وطنى ومطلب شعبى رئيسى، هى فى حقيقة الأمر موروث ناصرى لا يزال عالقا فى الضمير الشعبى، حيث لم يطبق مفهوم العدالة الاجتماعية واقعيا فى مصر الحديثة والمعاصرة سوى فى فترة حكم جمال عبد الناصر. والذى لا شك فيه على الإطلاق أن ثمة اختلافات جذرية بين الرجلين: أولا: جمال عبد الناصر كان عسكريا، وحمدين مدنى، وحكمه سوف يكون فى إطار دولة مدنية لا عسكرية. ثانيا: نظام حكم ناصر كان شموليا، أما نظام حكم حمدين فى حال توليه السلطة فسوف يكون ديمقراطيا فى إطار تداول السلطة. ثالثا: أن المناخ السياسى داخليا وإقليميا وعالميا يختلف فى جوانب كثيرة عما كان فى أيام جمال عبد الناصر. لم يحدث على مدار التاريخ أن تكررت تجربة حكم بحذافيرها، وأن استلهامها مع انقضاء الزمن يكتسب زخما من الفهم والوعى والمراجعة يدفع تجربة حمدين صباحى الجديدة إلى الأمام، وليس أدل على هذا من الإجماع الشعبى الذى حصل عليه فى مرحلة الانتخابات الرئاسية الأولى، والحس الشعبى ترمومتر لا يكذب.