«مربع طول الوتر فى المثلث القائم الزاوية يساوى مجموع مربعى طولى ضلعى القائمة» فيثاغورس. «الجسم المغمور كليًّا أو جزئيًّا فى مائع يكون مدفوعًا بقوة إلى أعلى. وهذه القوة تعادل وزن حجم المائع الذى يزيحه الجسم كليًّا أو جزئيًّا على الترتيب» أرشميدس. «كل جسم يجذب جسمًا آخر فى الكون بقوة محمولة على الخط الواصل بين المركزين، وشدتها متناسبة طرديًّا مع كتلتيهما، وعكسيًّا مع مربع المسافة بينهما» قانون الجاذبية العام لنيوتن. لعلك، إن كنت تحبين الفيزياء والرياضيات مثلى، أصبت بقشعريرة فى جسدك وأنت تتذكرين هذه القوانين، وتتذكرين لحظات السعادة حين سبرت يوما عمقها، وكشفت ما خفى عليك منها، وفهمت تطبيقاتها. أو لعلك، إن كنت لا تحبين الفيزياء، ولا تفهمينها، مثل السواد الأعظم من البشر. لعلك.. ماذا أقول.. لعلك لست معنا الآن. لعلك تركت المقال برمته، وانتقلت إلى ما يوافق هواك. وليست تلك مشكلة على الإطلاق، لا محبو العلم أفضل من غيرهم، ولا كارهوه أكثر استمتاعًا بالحياة من غيرهم. بل إن أذواق الناس تختلف. ولأن أذواق الناس تختلف لم يكن فى الحياة كلها نبى واحد من العلماء. أبدًا أبدًا. لو كان نبى عالمًا لنفَّر الناس بصعوبة كلامه. والناس، الأغلبية الكاسحة من الناس، لا تحب استهلاك الوقت فى فهم الصعب. بل تحب ما تيسر من الكلام، وما كان فهمه سريعًا، والتوافق عليه سريعًا. الإنسان طبعا يحب ما يوافق فهمه. والأنبياء يتحدثون بهذه اللغة السهلة. لا تقلل سهولتها من عمقها، ولا من قيمتها. لكنها فى كل الأحوال تبعد عن العلم ومشكلاته وتعقيداته. أتمنى أن أكون محبوبًا كمصطفى محمود أو زغلول النجار، وأقول إن الدين والعلم يسيران متشابكى الأيدى. لكن ضميرى لا يسمح لى. إنما سأقول ما يسمح به ضميرى: لا مشكلة على الإطلاق طالما رهن كل إنسان نفسه بما كسب، ولم يتعد على حدود الآخرين. المشكلة تأتى حين يدلى رجال الدين بدلوهم فى ما يعلمون وما لا يعلمون. المشكلة أن يُعطَى رجال الدين سلطة معنوية تفوق كثيرًا حجم معارفهم وبالتالى تفوق رجاحة عقولهم وقدرتهم على فهم الدنيا. حينما هاجر النبى محمد إلى المدينة رأى أهلها يؤبِّرون النخل (أى يلقحون إناث النخل بطلْع ذكورها)، فقال لهم: «لو لم تفعلوا لصلح». فتركوه فشاص (أى فسد وصار حملُه شيصًا، وهو التمر الردىء). فمرّ بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلتَ كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم». رواه مسلم. كلام الأنبياء إذن لا يكشف غيب الدنيا، بل يستدعى الحكمة المنسية، كما يلقيها عليهم الوحى. وحين يغوص فى المعرفة العلمية يتحول إلى كلام بشرى عادى، يخطئ ويصيب، حتى فى أمر سهل كتأبير النخل. العلم لا يدعى أنه يعرف شيئًا عما يحدث يوم القيامة، والدين يجب أن لا يدعى أنه يعلم ما خفى من شؤون الدنيا. لا يعلم مستقبل الاختراعات، ولا الغائب من الاكتشافات. ولا يرسم خرائط. ولا يخبر بحال المجرات. ولا يرسم للناس مسار تطورها. هذه وظيفة العلم. وحين أقول العلم أعنى المعرفة، التى تنحو إلى تحويل العام، المبهم، إلى قيمة ملموسة، أو أقرب ما يكون إلى الملموسة. وفى هذا الإطار فإنه يتسع ليشمل ما تظنينه علمًا وما لا تظنينه علمًا. هذا ما حدث معى. فقد كنت طوال عمرى، كما أشرت، أحب الرياضيات والفيزياء، وبلا سبب منطقى من محيطى الاجتماعى، أحببت الموسيقى الكلاسيكية حين بدأت التردد على مبنى الأوبرا فى أواخر سنوات الجامعة. ثم اكتشفت حين بدأت دراستها نظريًّا فى لندن أن من صاغ السلم الثمانى المتعارف عليه حتى الآن هو عالم الرياضيات العظيم، فيثاغورس. كانت مفاجأة عظيمة. ومفاجأة عظيمة أيضا أننى قرأت جزءًا من سيرة برتراند راسل الذاتية، ترجمها صديقى بهاء أبو زيد، فوجدت الفيلسوف الإنجليزى الشهير يقول عن سعيه فى حياته: «وحاولت أن أدرك القوة الفيثاغورسية التى تسيطر فيها الأرقام على تدفق الأشياء». الجملة صعبة؟ معلهش. أثق الآن أن آخرين يحبون الفيزياء والرياضيات سيدركون ما يقصده. فنحن أيضا (بس على قدنا) نحاول طوال عمرنا أن ندرك القوة الممتدة فى سلسال طويل، من العظيم فيثاغورس حتى الآن. هذه القوة التى تجعلنا نرى الأشياء المتدفقة فى الحياة من حولنا محكومة جميعا بقيم جبرية، وهندسية، بل وعشوائية. بعضها عرفناه بفضل العلماء، وبعضها لا نزال نبحث عنه. لكنه موجود. نؤمن أنه موجود. ونسعى من خلال التجربة والخطأ والصواب والبرهان العقلى المنطقى لإثبات أنه موجود. نستعين فى هذا بقضاء وقت مع كلام العلماء الصعب ومحاولة فهمه، وفهم الحياة والسياسة والاقتصاد والموسيقى، بل والأدب، من خلاله. صباحك فل!!