إسرائيل هى المستفيد الأول مما يُقال هذه الأيام عن العمل على تغيير فى بعض بنود معاهدة السلام مع مصر بهدف زيادة أعداد الشرطة المصرية على الحدود، لأنها تخطط أن تتولى هذه الشرطة أمام العالم مسؤولية حماية الحدود ضد ما تصفه بأنه اعتداءات يقوم بها إرهابيون يتسللون إليها عبر مصر! وبرغم وضوح هذه الاستفادة، إلا أن إسرائيل، كعادتها، تحاول أن تُداريها بمراوغات مكشوفة! وفى حالة عجز الشرطة عن القيام بالمهمة المنوطة بها بنسبة مئة بالمئة، فسوف تمتلك إسرائيل ورقة لابتزاز مصر، وتنسى أن أمريكا نفسها لا تزعم إمكانية مطلقة لحماية حدودها مع المكسيك. إضافة إلى أن هناك أسبابا موضوعية إضافية فى حالة إسرائيل تجعل المهمة مستحيلة. والغريب فى الموضوع أنه ليس هنالك أى كلمة عما ستحصل عليه مصر فى مقابل موافقتها على تغيير بند فى المعاهدة وتنفيذه لتستفيد منه إسرائيل بالدرجة الأولي! وأول مفارقة فى هذا أن إسرائيل هى التى أصرّت، أثناء مفاوضات المعاهدة قبل أكثر من 30 عاما، على منع وجود أى قوات عسكرية مصرية فى المنطقة ج، التى يُشَكّل حدّها الشرقى الحدود بين البلدين، وعلى ألا تزيد أعداد الشرطة المصرية فى هذه المنطقة على 7500 فرد، وهى تعلم أن هذا العدد الهزيل لا يمكنه أن يتحمل مسؤولية توفير الأمن فى هذه المنطقة الشاسعة. كان هدف إسرائيل آنذاك فى منتهى الوضوح: إبقاء الحدود المصرية هشة ليَسهُل غزوها إذا أرادت. لذلك كان غريبا أن تبادر إسرائيل، بعد مقتل عدد من جنودها منذ 3 أسابيع فى هجوم قالت إنه قادم من سيناء، بإعلانها أن مصر تتراخى فى حماية الحدود، وهى تعلم فساد منطقها هذا، وكان الأغرب تبعية وزيرة الخارجية الأمريكية، بإلقاء اللوم على مصر فى بيان متطابق مع العبارات الإسرائيلية! فلما تبين ضعف هذا المنطق وعجزه عن الإقناع، راحت إسرائيل تسمح بتسريبات متعمدة تبدو أنها متعارضة، ولكنها تصبّ جميعا فى صالح الدعوة لتقوية الشرطة الحدودية المصرية. قيل، فى أول الأزمة، إنه لا حاجة لتغيير المعاهدة، ثم قيل إنه ليس لدى إسرائيل معلومات رسمية أن مصر تفكر فى طلب تغيير المعاهدة، وقيل إن إسرائيل ترى أنه من الممكن دراسة هذا الأمر إذا كان لمصر طلب مُلّح، ثم قيل إن إسرائيل قد توافق على هذا الطلب فى حالة أن تكون الزيادة فى أعداد الشرطة معقولة!! هناك إذن خطة نحو هدف يُراد له أن يبدو “سماحا” لمصر أن تزيد قوات شرطتها، مع محاولة قصر التغيير فى المعاهدة على هذا النقطة وحدها دون المساس ببنود تتعلق بمسؤوليات إسرائيل التى صِيغت فى المعاهدة بعبارات مطاطة لم تُلزمها بسقف زمنى مما سمح لها أن تتنصل لأكثر من 30 عاما. ماذا إذن تعنى موافقة إسرائيل على زيادة أعداد الشرطة الحدودية؟ ولماذا الآن؟ وكيف يمكن تصور أن هذا بعيد عن استراتيجية إسرائيل مع مصر ما بعد مبارك؟ وألا يجوز الارتياب حول مؤامرات تُحاك لتوريط ثورة يناير أو لوضعها فى مآزق صعبة؟ وهل يمكن أن تبتلع مصر الطُعم تحت ضغط الحاجة إلى أدوات لمواجهة الإرهاب المحلى الذى ضرب سيناء مؤخرا وتلويح الإرهابيين بالمزيد من أجل إقامة إمارة إسلامية؟ وهل يجوز استبعاد الأيادى الإسرائيلية وراء مشروع الإمارة المزعومة؟ لا يجوز فى هذا السياق التورط فى المجادلة الخاصة بعجز الشرطة المصرية عن حماية الحدود والزعم بأن هذا هو السبب وراء مقتل عدد من الجنود الإسرائيليين، ذلك لأن الآلاف من السياسيين والمحللين المحايدين، من دول كثيرة، ومن اتجاهات سياسية شتى، يرون حقيقة أن أسباب العنف ضد إسرائيل ترجع أساسا إلى تعمدّها عرقلة التسوية مع الفلسطينيين، وأن هذه مسؤولية إسرائيل تتحملها وحدها، أو فى الحد الأدنى كمسؤول أول، وقد أقرَّ قبل أيام الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، وهو راعى معاهدة السلام، بأن إسرائيل لم تنفذّ التزاماتها فى المعاهدة. ويؤكد آخرون على نقاط أكثر تفصيلا يتمثل بعضها فى استمرار توسيع المستوطنات اليهودية فى الأراضى المحتلة، وإطلاق يد المستوطنين اليهود فى العدوان على العرب المسلمين والمسيحيين وعدم إنصاف الضحايا قضائيا، والإصرار على إذلال الفلسطينيين وازدراء مقدساتهم، وشن عمليات عنف هائل مُنظَّم يستهدف تدمير أى مقاومة فردية أو جماعية حتى وهى فى طور الاحتمال، وأحيانا يكون التدمير لمجرد الظن، واستعراض اليد الطولى فى أماكن بعيدة عبر العالم دون خشية من مساءلة، وفرض حصار مميت على المدنيين، والعدوان المادى الذى يصل إلى حد القتل للقوافل السلمية المعنية بالإغاثة والإسعاف الطبى وجلب المؤن والتى تسعى لفك طوق الحصار..الخ ويُرجّح كثير من المحللين أن هذه السياسات الإسرائيلية مقصودة وأنها تحظى باتفاق عام من الأحزاب والتيارات الرئيسية، التى تمثل النخب الإسرائيلية الحاكمة، لأنها لا تلبى فقط الهيمنة الإسرائيلية على الأراضى المحتلة وفرض السيطرة على الفلسطينيين، وإنما هى مفيدة أيضا للمجتمع اليهودى الذى يلتئم شمله فى حالة الإحساس بالخطر العام على دولتهم. إذن، وقف العنف ضد إسرائيل لن يتحقق بزيادة أعداد الشرطة المصرية على الحدود، ما دام أن الأسباب الحقيقية فاعلة. يبقى أنه لا يجوز الإذعان للمخطط الإسرائيلى فى التعامل بالقطعة مع القضايا الشائكة المعقدة المتراكمة والتى لم تُبد إسرائيل نية جادة للمشاركة فى حلها، وينبغى إدراك مخاطر الاكتفاء بمعالجة الأعراض وترك الأسباب الأصيلة، كما أنه يجب تغيير سياسة مبارك التى كانت تقبل أن تحصل إسرائيل دائما على كل ما تريد. وكل هذا أدعى لإدراك أن حماية حدود مصر الشرقية ودرء مخاطر التهديد الدائم باحتلال الشريط الحدودى، لن تتحقق بقوات الشرطة مهما تعاظمت قوتها ووصلت إلى أقصاها، وإنما عن طريق من اثنين: أولها، جيش قوى يمكنه أن يتحرك بحرية على الأراضى المصرية بلا رادع من معاهدة أو من غيرها، وهذا احتمال غير وارد فى ظل الظروف السائدة والمتوقع أن تستمر لسنوات، وأما الطريق الثانى، فهو بتكثيف الوجود المدنى داخل مدن وقرى حديثة تمتد بطول هذا الشريط، وتكون أقرب ما يمكن إلى خط الحدود، ويمكن خلال عقود قليلة من التخطيط العلمى أن تستوعب ملايين من المواطنين المقيمين إقامة طبيعية دائمة فى ظل توفير فرص العمل وسبل العيش والأمن المتطورة. لقد اختلفت مصر بعد ثورة يناير، وهذه رسالة ينبغى على الجميع استيعابها، أما المعاهدة التى قيدت مصر ومبارك الذى اعتقلها وعذّبها، فهذا ماضٍ لن يعود.