أسرف عثمان بن عفان، رضى الله عنه، فى تولية أبناء العم والخال وذوى الحظوة والقربى حكمَ الولايات وشؤون الدواوين، فنجد مروان بن الحكم فى المدينة، ومعاوية بن أبى سفيان فى الشام، والوليد بن عقبة ثم سعيد بن العاص فى الكوفة، وعمرو بن العاص ثم عبد الله بن أبى سرح فى مصر، وغيرهم، هذا بينما تم تهميش الصحابة وكبار القادة العسكريين الذين شاركوا فى الفتوحات. ولما وجد بعضهم أن الامتيازات تذهب لغيرهم بدؤوا فى الشكوى والتذمر، وعانى غيرهم من أمور تتعلق بسياسة الخراج (الضرائب) وبطش وفساد الولاة، وزادت الشكاوى والمظالم فى الأمصار والولايات، ولم تكن استجابة الخليفة بالقدر الذى يطفئ نيران الغضب، فعندما اشتكى أهل الكوفة من فساد واليهم سعيد بن العاص، لم يسمع الخليفة سوى نصيحة ابن عمه معاوية الذى وصف فيها المتظلمين من أهل العراق بأنهم «قوم شِقاق.. ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة، والله مبتليهم وفاضحهم، وليسوا بالذين نخاف نكايتهم». وعندما تكررت الشكاوى من البصرة ومصر، لم ينتبه الخليفة لخطورة ما يحدث من تفاعلات فى الخلافة، وكان يرد الشكاوى لولاته ويتخذ القرارات متأخرًا بعد أن تتأزم الأمور، وتتأجج نار الغضب، حتى تحولت أرض الخلافة إلى ساحة للثورة والتمرد، وأينعت فيها تيارات المعارضة العلنية، وتعددت أساليب وأهداف الأجنحة الثورية، فمنهم من اكتفى بالجانب الدعوى بغية الإصلاح مثل أبى ذر الغفارى، ومنهم من اكتفى بالمقاطعة الاحتجاجية مثل عمار بن ياسر، ومنهم من سعى للتحريض مثل محمد بن أبى بكر، ومنهم من دبّر للعنف مثل مالك الأشتر، ومنهم من لعب فى الخفاء مثل معاوية وعمرو بن العاص، وهكذا يبدو أن الثورة ضد عثمان لم تأتِ من طريق واحد اسمه مصر. صحيح أن كتب التاريخ تذكر أنه فى سنة 35ه سار «أهل مصر» فى 600 رجل بقيادة أبى حرب الغافقى، إلى المدينة لرفع شكايتهم للخليفة من استهتار ولاته عليهم، وطلب الخليفة من الإمام على بن أبى طالب سماعهم وتهدئتهم، فخرج إليهم وأقنعهم بالعودة إلى ديارهم، وفى طريقهم للعودة قبضوا على غلام لعثمان يحمل رسالة ممهورة بخاتم الخليفة إلى والى مصر عبد الله بن أبى سرح يأمره فيها بقتل من رجع من المدينة والتنكيل بهم، فعادوا إلى المدينة مصممين على عزل عثمان، لكن هل كان ثوار هذه المسيرة مصريين حقا؟ وكيف خرجوا من أرض مصر؟ ومن قام بالتنسيق بينهم وبين الصحابة المعارضين فى المدينة والثوار الذين قدموا من الكوفة والبصرة؟ الأسئلة كثيرة وتحتاج إلى إجابات موضوعية بعيدًا عن الانحيازات المذهبية الملونة التى وظفت التاريخ فى الفتنة والصراع الطائفى، ونبدأ بموضوع الرسالة المنسوبة إلى سيدنا عثمان، وهى رسالة غامضة اختلف المؤرخون بشأنها، فمنهم من قال إن مروان بن الحكم (والى المدينة ووزير الخليفة المقرب) هو الذى أشار عليه بالرسالة. ومنهم من قال إن مروان أرسلها بغير علم الخليفة، ليتخلص من المحتجين الذين احتجوا على منح الخليفة خُمس خراج إفريقيا له وحده. وهناك من قال إن الرسالة كانت مدسوسة من أطراف غامضة تستهدف إثارة الفتنة، وتحدث أصحاب هذه الآراء عن «أجندات أجنبية»، و«مؤامرات يهودية». ونسب بعض المصادر التاريخية كل الفتن فى ذلك العصر إلى عبد الله بن سبأ، وهو شخصية أسطورية تستحق أن نتوقف عندها بالتفصيل بعد ذلك، لنفهم كثيرًا من تاريخنا وحاضرنا أيضًا من «التمرد ضد الخليفة الثالث»، إلى «الثورة ضد الرئيس الثالث». والقراءة مستمرة.